(الصفحة 98)
كما لايخفى .
ثمّ إنّ الإيراد على الاحتمال الأوّل; بأنّ لازمه كون الآية ناظرة إلى الأدلّة الاُخرى الدالّة على الأسباب غير المملّكة وغير الصحيحة، والأسباب المسوّغة، غير وارد; لأنّه لا دليل على كونها واردة لبيان حكم مستقلّ غير تلك الأدلّة، بل هي للإرشاد كما ذكر. كما أنّ تصحيح الإشكال بأنّ الباطل عند الشرع قد لا يكون باطلاً عند العقلاء، كالبيع الغرري من طريق الحكومة واضح المنع; مثل دعوى أنّ العقلاء إذا رجعوا إلى فطرتهم الأصليّة يحكمون بمنع مثل القمار، فتدبّر .
وبعد ذلك كلّه فالظاهر أنّه لا محيص عن جعل الاستثناء في الآية منقطعاً، وقد صرّح بذلك القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن(1)، وهذا من دون فرق بين أن تكون «تجارة» منصوبة أو مرفوعة، بناءً على أنّ كان تامّة أو ناقصة ; وذلك لوضوح أنّ المستثنى لايكون من مصاديق أكل المال بالباطل، بل تناسب الحكم والموضوع لايلائم الاستثناء المتّصل بوجه.
نظير الاستثناء من دليل حرمة الشرك; فإنّه لامجال لكون شيء شركاً ، ومع ذلك صار بعض أقسامه مستثنى من الحرمة، بخلاف السجود لغير الله; فإنّه يجوز أن لايكون منهيّاً عنه ، بل مأمور به بالأمر الإلهي، كما في سجود الملائكة لآدم ، فتدبّر; فإنّه كان في الحقيقة سجود له، ومع ذلك أمر الله ـ تعالى ـ به وتخلّف عنه الشيطان لما توهّمه من علوّه على آدم (عليه السلام) ; لأنّه خلق من طين وخلق الشيطان من النار(2) .
ثمّ إنّه لأجل ذلك ـ أي كون الاستثناء منقطعاً، ولازمه كون المستثنى والمستثنى
- (1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5: 151.
- (2) سورة الأعراف 7: 12 ،و سورة ص38: 76.
(الصفحة 99)
منه دليلين مستقلّين لا ارتباط لأحدهما بالآخر ـ ذكر سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) في ذيل البحث عن الآية، أنّه لو فرض في مورد صدق الأكل بالباطل، وصدق التجارة عن تراض، يقع التعارض بين صدر الآية وذيلها بناءً على دلالتهما على الحكم الوضعي; أي بطلان المعاملة وصحّتها، ولا ترجيح لأحدهما(1) ، انتهى .
ضرورة أنّ التعارض بين الصدر والذيل إنّما يقع بناءً على ذلك المبنى; لأنّه لوكان الاستثناء متّصلاً لا مجال لدعوى التعارض بعد كون المستثنى والمستثنى منه كلاماً واحداً ودليلاً فارداً .
ومن الواضح أنّ الاستثناء من السلب إيجاب ومن الإيجاب سلب، كما لايخفى ، كما أنّه يستفاد من فرض التعارض أنّه (قدس سره) حمل الباطل في الآية على الباطل الشرعي; ضرورة أنّه لا وجه لتوهّم التعارض في غير هذه الصورة، كما هو ظاهر .
والإنصاف أنّ الوصول إلى حقيقة معنى الآية ومفادّها مشكل جدّاً ; لأجل أنّ حمل الباطل المذكور فيها على الباطل الشرعي ـ بحيث لم تكن الآية إلاّ للإرشاد، والأدلّة الاُخرى كانت متصدّية لبيان الأسباب الصحيحة والباطلة ، مع أنّ الظاهر كونها في مقام بيان الضابطة وإفادة القاعدة ـ بعيد جدّاً، وحمل الباطل على الباطل العرفي الذي لا يقول به العقلاء ـ المستلزم لعدم كون مثل البيع الغرري باطلاً، كما هو المتداول في العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام ـ أيضاً بعيد .
كما أنّ حمل الاستثناء على الانقطاع الذي لا محيص عنه ـ كما عرفت ـ أيضاً بعيد، خصوصاً فيما يتعلّق بالدليل الذي هو مسوق لبيان الضابطة الكلّية، خصوصاً في الكتاب والقرآن العزيز .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 243 ـ 244.
(الصفحة 100)
وبعد ذلك كلّه فلا إشكال في أنّه لايستفاد من الآية إلاّ الحكم الوضعيّ الراجع إلى الصحّة والبطلان، دون الحكم التكليفيّ الذي هو محطّ البحث في هذا الفرع على ما عرفت، فهي غير مرتبطة بالمقام .
وربما يستدلّ للحكم بالحرمة في هذا الفرع بالحرمة لأجل المقدّميّة(1)، مع أنّه قدثبت في بحث مقدّمة الواجب من الاُصول أنّ مقدّمات الحرام لاتكون محرّمة إلاّ المقدّمة التي يترتّب عليها ذو المقدّمة قهراً، ولا مدخل لإرادة المكلّف واختياره بعدها(2) .
ومن المعلوم عدم كون المقام كذلك كما هو واضح ، مع أنّ المقدّميّة ممنوعة في هذا الفرع ; لأنّ محلّ الكلام فيه ما لو لم يكن في البين إلاّ بيع العنب مثلاً مع اشتراط صرفه في عمل الخمر أو التواطئ عليه، ومن الممكن أن لا يكون عازماً على ذلك من أوّل الأمر، أو انصرف عن عزمه، وإنّما تكون المقدّميّة ثابتة بالإضافة إلى الفرع الآتي الذي يعلم بصرف المبيع في الحرام، كما لايخفى ، مع أنّه على تقدير ثبوت الحرمة من باب المقدّمة نقول : إنّ الحرمة المدّعاة حرمة نفسيّة، مع أنّ حرمة المقدّمة تبعيّة .
كما أنّه ربما يستدلّ لما ذكرنا بأدلّة وجوب النهي عن المنكر; نظراً إلى أنّ رفع المنكر لو كان واجباً لكان دفعه أيضاً كذلك، بل بطريق أولى(3) .
وفيه ـ مضافاً إلى اختصاص ذلك على تقدير صحّته بصورة العلم بالصرف في الحرام، مع أنّ موضوع الفرع أعمّ من ذلك ـ : أنّ أولويّة الدفع عن الرفع لا مجال
- (1) مستند الشيعة 14: 96.
- (2) سيرى كامل در اصول فقه 6: 12 ـ 13.
- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 47، رياض المسائل 8 : 54، مستند الشيعة 14: 99.
(الصفحة 101)
للالتزام بها لو لم نقل بأنّ الأولويّة بالعكس، كما لايخفى ، هذا ما أفاده بعض الأعلام (قدس سره) (1) .
وأمّا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) ، فهو أنّ وجوب النهي عن المنكر هل هو عقليّ أو شرعيّ ، وقد اختار هو تبعاً للشيخين الطوسي(2) والأنصاري(3)والعلاّمة(4) والشهيدين(5) وبعض آخر الأوّل (6)، كما أنّ جمهور المتكلّمين، منهم المحقّق الطوسي الثاني(7). وأفاد أنّه على كلا القولين يكون النهي عن المنكر بترك البيع ممّن يعلم أنّه يصرفه في الخمر لازماً وإن كان هذا الدليل لا يجري في هذا الفرع الذي ليس فيه العلم .
و خلاصة ما أفاده في ضمن كلام طويل: أنّه لا فرق في نظر العقل بين الرفع والدفع، بل لا معنى لوجوب الرفع; فإنّ ما وقع لا ينقلب عمّا هو عليه ، فالواجب عقلاً هو المنع عن وقوع مبغوض المولى ، وما يشير إليه كلام الشيخ من الاستدلال عليه بوجوب اللطف، فهو غير تامّ ; لما أفاده السيّد في الحاشية من كفاية ترهيب الله ونهيه في تحقّق اللطف(8) . هذا لو كان الوجوب عقليّاً .
- (1) مصباح الفقاهة 1: 267.
- (2) الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: 147.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 134.
- (4) مختلف الشيعة 4: 471 ـ 472 مسألة 83 .
- (5) اللمعة الدمشقيّة : 46، الروضة البهيّة 2: 409.
- (6) نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة: 264، السابع، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التنقيح الرائع 1: 591 ـ 592.
- (7) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 578 ـ 579.
- (8) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 60.
(الصفحة 102)
وأمّا لو كان شرعيّاً، فمقتضى إطلاق الأدلّة الشمول للدفع أيضاً لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدفع وأنّ الرفع يرجع إليه; لأنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر، وهو لا يتعلّق بالموجود إلاّ باعتبار ما لم يوجد; فإنّ الزجر عن إيجاد الموجود محال عقلاً وعرفاً، فهل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر يشربها بمرئى ومنظر من المسلم، يجوز له التماسك عن النهي حتّى يشرب جرعة منها ؟
ومن الواضح أنّ النهي في صورة شرب الجرعة إنّما هو باعتبار استمراره، وهو لايكون إلاّ دفعاً لا رفعاً(1) ، انتهى ، وهذا متين جدّاً .
ثمّ إنّه أفاد سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن (قدس سره) وجهاً آخر للحكم بالحرمة في بعض مصاديق هذا الفرع; وهو اشتراء العنب للتخمير ; وحاصله: أنّ الظاهر المتفاهم من المستفيضة الدالّة على لعن الخمر وغارسها وحارسها وبائعها ومشتريها . . .(2) أنّ اشتراء العنب للتخمير حرام ، بل كلّ عمل يوصله إليه حرام، لا لحرمة المقدّمة; فإنّ التحقيق عدم حرمتها، ولا لمبغوضيّة تلك الاُمور بعناوينها ، بل الظاهر أنّ التحريم نفسيّ سياسيّ لغاية قلع مادّة الفساد .
فإذا كان الاشتراء للتخمير حراماً; سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا ، تكون الإعانة عليه حراماً; لكونها إعانة على الإثم بلا إشكال; لأنّ قصد البائع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام، والفرض تحقّق الاشتراء أيضاً(3) ، انتهى موضع الحاجة .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 203 ـ 206.
- (2) وسائل الشيعة 25: 375، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب34 ح1 و 2.
- (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 215.