(الصفحة 173)
فقتله فلا شيء عليه من قود ولا دية ، ويعطى ورثته ديته من بيت مال المسلمين . قال: وإن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده فلا قود لمن لا يقاد منه ، وأرى أنّ على قاتله الدية في ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ، ويستغفر الله ويتوب إليه(1) .
فإنّ الرواية وإن كانت واردة في المجنون إلاّ أنّ قوله في جزاء القضية الشرطية: «فلا قود لمن لا يقاد منه» ربّما يستفاد منه ضابطة كلّية ، وهي عدم ثبوت القصاص لمن لايقتصّ منه، فيشمل قتل الصبيّ أيضاً، لأنّه لايقتصّ منه إذاكان قاتلاً،كما عرفت.
هذا ، والظاهر أنّ هذه الاستفادة تكون تامّة لو كانت الضابطة واردة بعنوان التعليل ،وأمّا لو كانت واردة بمثل ما في الرواية من كونها جزاء للشرط المفروض فيه المجنون فلا مجال لها ، نعم لا وجه لإنكار إشعاره بذلك ، ولكن مجرّد الإشعار لا ينهض في مقابل الأدلّة العامّة والخاصّة . نعم يوجب تحقّق موضوع الاحتياط بأن لا يختار ولي المقتول القصاص ، بل يصالح عنه بالدية ، كما في المتن .
وأمّا أنّه لا يقتصّ من الكامل للناقص ، فهو أوّل الكلام ، وإن أُريد به مطلق الكمال والنقص فهو ممنوع ، بداهة أنّه يقتصّ من العالم للجاهل وشبهه .
الثاني: ما إذا قتل العاقل المجنون ، ولا خلاف في عدم ثبوت القصاص فيه ، بل في محكيّ كشف اللّثام نسبته(2) إلى قطع الأصحاب ، بل عن كشف الرموز الإجماع عليه(3) ، ويدلّ عليه صحيحة أبي بصير المتقدّمة آنفاً في الفرع الأوّل ، كما أنّها تدلّ على ثبوت الدية في مال القاتل ، وأنّه يدفعها إلى ورثة المجنون .
والظّاهر أنّه لا فرق في المجنون بين الاطباقي والادواريّ ، كما أنّ الظاهر أنّه لو
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 51 ، أبواب القصاص في النفس ب 28 ح1 .
- (2) كشف اللثام: 2 / 456 .
- (3) كشف الرموز: 2 / 611 .
(الصفحة 174)
كان القاتل أدواريّاً أيضاً بأن كان القتل في دور عقله لا يثبت عليه القصاص ، لإطلاق الرّواية من الجهتين .
الثالث: ما لو كان المجنون أراده بسوء بأن يقتله وكان دفعه متوقّفاً على قتله ، فدفعه بقتله ، فلا إشكال ولا خلاف في أنّه لا قصاص فيه ، ولا دية على القاتل ولا على عاقلته ، إنّما الخلاف في أنّه هل يثبت الدية على غيرهما من بيت مال المسلمين أم لا؟ فالمحكيّ عن كثير من الكتب الفقهية(1) التي وقع فيها التعرّض لهذه الجهة هو الثاني ، بل عن غاية المرام نسبته إلى المشهور(2) ، وعن المفيد(3) والجامع(4) هو الأوّل كما في المتن . ويدلّ عليه صدر صحيحة أبي بصير المتقدّمة في الفرع الأوّل ، حيث وقع فيها التصريح بأنّه يعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين ، والظاهر أنّه لم تبلغ الشهرة في المسألة إلى حدّ الإعراض عن الرواية حتّى يكون ذلك قادحاً في حجيّتها ، لكن في مقابلها روايتان:
إحداهما: رواية أبي الورد قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) أو لأبي جعفر (عليه السلام) : أصلحك الله رجل حمل عليه رجل مجنون فضربه المجنون ضربة ، فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه فقتله ، فقال: أرى أن لا يقتل به ولا يغرم ديته ، وتكون ديته على الإمام ، ولا يبطل دمه(5) .
- (1) كالنهاية: 759 ـ 760 والسرائر: 3 / 368 والمهذّب: 2 / 514 ـ 515 والقواعد: 2/292 والإرشاد: 2/202 وكشف الرموز : 2 / 611 .
- (2) غاية المرام: 4 / 387 .
- (3) حكى عنه في التنقيح الرائع: 4 / 431 ، ولم نجده في المقنعة .
- (4) الجامع للشرائع: 575 .
- (5) وسائل الشيعة: 19 / 52 ، أبواب القصاص في النفس ، ب 28 ، ح2 .
(الصفحة 175)
ولكنّها ـ على تقدير كون المراد من قوله: «فتناول» هو توقف الدفع على الضرب والقتل ، وإن كان يبعّد ذلك أنّه بعد صيرورة السيف في يد العاقل لا يتحقّق التوقف نوعاً ، كما لا يخفى ـ محمولة على كون المراد من الامام هو بيت المال ، خصوصاً مع عدم قائل بما هو ظاهره .
ثانيتهما: الأخبار المتعدّدة الواردة في مطلق الدفاع عن النفس ، الظاهرة في أنّه إذا توقّف الدفاع على قتل المهاجم لا يكون في هذا القتل شيء أصلاً ، ويكون دمه هدراً ، فتنافي مع رواية أبي بصير في المقام .
والجواب: أنّ تلك الأخبار لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن تكون مطلقة شاملة لما إذا كان الحامل والمهاجم مجنوناً ، وإمّا أن لا تكون شاملة للمقام ، فعلى التقدير الأوّل تكون صحيحة أبي بصير مقيِّدة لها وموجبة لإخراج المجنون ، وعلى التقدير الثاني لا ارتباط بين المقام وبين تلك الروايات ، لاختلافهما من حيث المورد .
ودعوى: أنّه على تقدير الاختصاص بغير المجنون ، يكون شمول الحكم له بطريق أولى ، لأنّه إذا كان دم العاقل المهاجم هدراً ، فدم المجنون كذلك بطريق أولى ، لعدم تحقّق القصاص فيه دونه .
مدفوعة: بأنّه يمكن أن يكون للعقل مدخلية في كون دم المهاجم هدراً ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الغرض عدم تكرّر التهاجم من غيره ، وهذه الجهة غير متحقِّقة في المجنون ، ولأجله تحقّق الفرق بين قتل العمد وقتل الخطأ مثلاً في الحكم مع اشتراكهما في تحقّق القتل وصدوره من القاتل . وعليه فيمكن أن لا يكون دم المجنون المهاجم هدراً مطلقاً ، بل يلزم أن يعطى ديته من بيت مال المسلمين ، فالأولوية ممنوعة جدّاً ، والتساوي فاقد للدليل ، فلا محيص عن الأخذ بالصحيحة في المقام .
(الصفحة 176)مسألة 6 ـ في ثبوت القود على السكران الآثم في شرب المسكر إن خرج به عن العمد والاختيار تردّد ، والأقرب الأحوط عدم القود ، نعم لو شكّ في زوال العمد والاختيار منه يلحق بالعامد ، وكذا الحال في كلّ ما يسلب العمد والاختيار ، فلو فرض أنّ في البنج وشرب المرقد حصول ذلك يلحق بالسكران ، ومع الشك يعمل معه معاملة العمد ، ولو كان السكر ونحوه من غير إثم فلا شبهة في عدم القود ، ولا قود على النائم والمغمى عليه ، وفي الأعمى تردّد1..
1 ـ في هذه المسألة فروع:
الفرع الأوّل: هل يثبت القود على السكران القاتل أم لا؟ والمفروض هنا ثبوت قيدين: كونه آثماً في شربه ، وخروجه بالسكر عن العمد والاختيار في حال صدور القتل . وقد تردّد فيه في المتن أوّلاً ، ثم جعل الأقرب العدم ، تبعاً للعلاّمة في الإرشاد(1) والقواعد(2) ، ولصاحب المسالك(3) ، ولكن جعل المحقّق في الشرائع(4)الثبوت أشبه ، وفاقاً للأكثر ، بل ربّما يشعر أو يصرّح بعض الكتب بالإجماع عليه(5) ، واللاّزم التكلّم فيه في مقامين:
الأوّل: في أنّ مقتضى القاعدة بملاحظة الضابطة الأصلية في باب القصاص هل هو ثبوت القصاص ، أو عدمه ، أو التفصيل بين الموارد مع قطع النظر عمّا ورد في
- (1) إرشاد الأذهان: 2 / 202 ـ 203 .
- (2) قواعد الأحكام: 2 / 292 .
- (3) مسالك الأفهام: 15 / 165 ـ 166 ، وقال: وهو اختيار الأكثر .
- (4) شرائع الإسلام: 4 / 990 .
- (5) حكى في جواهر الكلام: 42 / 186 الإشعار بالاجماع عن غاية المراد : 366 والتصريح به عن إيضاح الفوائد: 4 / 601 .
(الصفحة 177)
المقام من النصّ ؟ فنقول:
الظاهر هو التفصيل بين من يعلم بأنّ شربه للمسكر يترتّب عليه القتل نوعاً ، وبين من لا يعلم بذلك ، لأنّ صدور القتل وإن كان في حال زوال الاختيار والخروج عن العمد ، إلاّ أنّ ارتكابه للشرب عن عمد واختيار وتوجّه والتفات مع العلم بترتّب القتل عليه نوعاً بعد تحقّق السكر يجعل القتل قتلاً عمدياً عند العقلاء . وبعبارة أُخرى لا ينفكّ التعمّد للارتكاب مع العلم بالترتّب عن التعمّد للقتل ، فإنّ من علم بأنّه إذا ذهب إلى مجلس فلاني ودخل فيه يترتّب على دخوله تحقّق المعصية وصدور عمل محرَّم اضطراراً أو إكراهاً لا يكون مع التعمّد في الذهاب واختيار الدخول مع العلم بذلك مضطرّاً إلى المعصية أو مكرَهاً عليها ، بل هي معصية عمدية موجبة لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة ، نعم مع عدم العلم بذلك أو عدم الالتفات إليه لا ينبغي المناقشة في عدم الاستحقاق ، لعدم تحقّق المعصية العمديّة .
وليس صدق قتل العمد في الفرض الأوّل لأجل كونه آثماً في شرب المسكر ، بل لأجل صدوره منه اختياراً ، وعليه فلو فرض إباحة الشرب مثلاً يتحقّق التعمّد في القتل أيضاً ، كما في مثال الذهاب إلى المجلس ، حيث لا يكون نفس الذهاب إليه محرَّماً ، نعم في صورة الوجوب في مثل المقام لابدّ من ملاحظة الأهمّ من الحرمة والوجوب ، كما لا يخفى .
الثاني: في ملاحظة مقتضى النصّ ، فنقول : قد ورد في المقام روايتان:
إحداهما: رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسجنهم ، فمات منهم رجلان وبقي رجلان ، فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين اقدهما