(الصفحة 204)مسألة 5 ـ لو شهد اثنان بأنّ القاتل زيد مثلاً ، وآخران بأنّه عمرو دونه ، قيل: يسقط القصاص ووجب الدية عليهما نصفين لو كان القتل المشهود به عمداً أو شبيهاً به ، وعلى عاقلتهما لو كان خطأ . وقيل : إنّ الولي مخيّر في تصديق أيّهما
القتل بذلك ، وإن استشكل فيه في القواعد(1) .
أمّا أصل القتل فربّما يقال فيه بالثبوت ، لاتّفاق الشهادتين في ثبوته ، واختلافهما في الصفة . والفرق بين هذا المقام وبين ما تقدّم من الاختلاف في الخصوصيات الراجعة إلى الزمان أو المكان أو آلة القتل أو نحوها حيث لا يثبت أصل القتل فيه كما مرّ ، بأنّ تلك الخصوصيات إنّما كانت مرتبطة ومضافة إلى القتل ، لكونها ظرفاً زمانيّاً أو مكانياً للفعل أو آلة لتحقّقه وأشباههما ، وأمّا خصوصية العمديّة والخطئيّة فمرتبطة بالفاعل ، من جهة كونه قاصداً ومريداً وعدم كونه كذلك ، فلا مجال للتشبيه .
ولكن يدفعه أنّ الفعل كما له إضافة وارتباط بالأمور المذكورة ، كذلك له إضافة بالفاعل من جهة القصد وعدمه ، ولذا يترتّب عليه الحسن والقبح ، فالعمل الصادر عن قصد يغاير العمل الصادر عن غيره . وحينئذ فلا فرق بين أن يكون الاختلاف في الأُمور المذكورة ، وبين أن يكون في جهة العمد والخطأ . وعليه فلا يثبت أصل القتل ، لثبوت التعارض والتكاذب .
ومنه يظهر عدم كون هذا الفرض لوثاً ، لأنّ مورده صورة وجود الشاهد الواحد الخالي عن المعارض الموجب للسقوط ، فمع وجود المعارض لا يتحقّق اللّوث بوجه ، كما لا يخفى .
- (1) قواعد الأحكام: 2 / 294 .
(الصفحة 205)شاء ، كما لو أقرّ اثنان كلّ واحد بقتله منفرداً ، والوجه سقوط القود والدية جميعاً1..
1 ـ يستفاد من الجواهر(1) أنّ صحّة تصوير قيام البيّنتين إمّا أن تكون لأجل اختيار صحّة التبرّع بالشهادة بالدّم ، أو لأجل ثبوت وكيلين للمدّعي وادّعاء كل واحد منهما مقروناً بإقامة بيّنة خاصّة ، أو لأجل القول بأنّه يجوز للمدّعى عليه إبراء نفسه بإقامة البيّنة على أنّ القاتل غيره .
ويمكن أن يكون لأجل تخيّل المدّعي أنّ الأربعة يشهدون بكون القاتل فلاناً ، ثم رأى الاختلاف بينهما عند الحاكم من جهة المشهود عليه ، ويمكن أن يكون لغير ذلك ، وكيف كان ففي المسألة أقوال:
أحدها: سقوط القصاص وتنصيف الدية عليهما أو على العاقلة بالنحو المذكور في المتن . وحكي هذا القول عن الشيخين في المقنعة(2) والنهاية(3) ، والقاضي(4)والصهرشتي وأبي منصور الطبرسي(5) ، والفاضل في بعض كتبه(6) وولده(7) وأبي العبّاس(8) .
ومرجعه إلى تعارض البيّنتين وتساقطهما بالإضافة إلى ما يترتّب على قتل العمد
- (1) جواهر الكلام: 42 / 218 ـ 219 .
- (2) المنقعة: 737 .
- (3) النهاية: 742 .
- (4) المهذّب : 2 / 502 .
- (5) حكى عنهما في مفتاح الكرامة: 11 / 47 .
- (6) مختلف الشيعة: 9 / 314 مسألة 22 ، تحرير الأحكام: 2 / 251 .
- (7) إيضاح الفوائد: 4 / 608 .
- (8) المقتصر : 431 .
(الصفحة 206)
من القصاص ، وإن كان المشهود به لكليهما هو قتل العمد ، ولكن لا تتساقطان بالإضافة إلى الدية ، بل تثبت بالاشتراك والتنصيف بينهما أو بين عاقلتهما .
أقول: أمّا سقوط القصاص في قتل العمد مع تعارض البيّنتين ، فلا شبهة فيه بعدما عرفت من أنّ اختلافهما في الخصوصيات مثل الزمان والمكان يوجب تساقطهما ، فإنّه إذا كان الاختلاف في الزمان مثلاً موجباً لعدم ترتّب الأثر على شيء من البيّنتين مع عدم مدخليته في القصاص أصلاً; لأنّ الموجب له هو قتل العمد بلا مدخلية للزمان ، فالاختلاف في تعيين القاتل موجب للسقوط بطريق أولى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الاقتصاص من كليهما مع العلم ببراءة أحدهما وعدم صدور القتل منه بوجه لا مجال له أصلاً . والاقتصاص من أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، وتخيير الوليّ كما في الإقرارين لا دليل له بعد كون مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين هو التساقط ، كما حقّق في الأصول . وأمّا القرعة فلا مجال لها أصلاً ، لا لما في الجواهر(1) من الاحتياط في الدماء ، بل لعدم العلم الإجمالي بعدم خروج القاتل عنهما .
وأمّا ثبوت الدية عليهما أو على عاقلتهما بنحو التنصيف ، فربّما يستدلّ عليه بأنّه إن لم نقل بذلك يلزم إمّا بطلان دم امرىء مسلم إن لم نقل بثبوت الدية أصلاً ، أو إيجاب شيء بغير سبب ولا علّة ، إن قلنا بثبوتها على الأجنبي الذي هو شخص ثالث ، أو الترجيح بلا مرجّح إن أوجبناه على أحدهما المعيّن ، فاللاّزم هو الحكم
- (1) جواهر الكلام: 42 / 219 .
(الصفحة 207)
بالثبوت عليهما بنحو الاشتراك(1) .
ويرد عليه أنّ هذا الدليل لا يقتضي ارتباط القتل واستناده بهما ، بعد تعارض الأمارتين واقتضائه التساقط ، فاللاّزم الحكم بثبوت الدية على بيت المال مثلاً ، كسائر الموارد التي لا يعرف القاتل بوجه .
هذا ، مضافاً إلى أنّه يمكن القول بالتخيير الذي مرجعه إلى عدم العلم بأخذ الدّية ممّن لا يكون قاتلاً ، بخلاف التشريك والتنصيف .
وبالجملة: إثبات ذلك من طريق القاعدة ـ كما رامه المستدلّ ـ مشكل بل ممنوع جدّاً . نعم يمكن القول بأنّ فتوى الشيخين في كتابي المقنعة(2) والنهاية(3) ـ اللّتين هما من الكتب المعدَّة لنقل فتاوي الأئمّة (عليهم السلام) بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، كما هو الشأن في تدوين الكتب الفقهية في الأزمنة السالفة إلى زمن تأليف مبسوط الشيخ ـ يكشف عن وجود نصّ دالّ على ذلك ، وأنّ ذلك النصّ كان مفتى به لهما . ويؤيّده تصريح السرائر(4) والتحرير(5) بثبوت الرواية في المقام .
هذا ، ولكنّه حيث لا تكون الرواية واصلة إلينا ولا منقولة في كتب الحديث ، وفتويهما وإن كانت كاشفة عن النصّ لما ذكر ، إلاّ أنّه حيث تكون الرواية المكشوفة بهذا الطريق مرسلة لا محالة ; لعدم تعرّضهما لذكر السند ، فإن كان مفتى بها عند المشهور لكان إرسالها منجبراً باستناد المشهور إليها ، وأمّا مع عدم تحقّق الشهرة
- (1) راجع إيضاح الفوائد: 4 / 608 والمهذّب البارع: 5 / 203 ـ 204 .
- (2) المقنعة: 737 .
- (3) النهاية: 742 .
- (4) السرائر: 3 / 341 .
- (5) تحرير الأحكام : 2 / 251 .
(الصفحة 208)
فلا يبقى مجال للانجبار ، ولأجله لا يمكن الفتوى على طبقها مع كونها مخالفة للقاعدة ، كما عرفت .
ثانيها: كون الوليّ مخيّراً في تصديق أيّهما شاء ، كما لو أقرّ اثنان كلّ واحد بقتله منفرداً ، وهو محكي عن ابن إدريس(1) وعن المحقّق الثاني الجزم به(2) ، وعمدة ما استدلّ به عليه ثبوت التخيير فيما لو شهد اثنان على واحد بأنّه القاتل وأقرّ آخر بالقتل ، وقياس المقام عليه ، ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم معلومية ثبوت التخيير هناك كما يأتي في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى ـ أنّه على تقديره لا مجال للقياس ، خصوصاً في الحكم المخالف للقاعدة ، لما عرفت من اقتضائها التساقط .
ثمّ إنّه ذكر في الجواهر عقيب هذا القول وردّه ما لفظه: «وللمصنّف ـ أي المحقّق ـ تفصيل في نكت النهاية ، تبعه عليه تلميذه الآبي في كشف الرموز(3) ، وأبو العبّاس فيما حكي عنه(4) والمقداد(5) ، بل كأنّه مال إليه الشهيدان(6) ، فإنّه بعد أن أورد كلام السائل عن عبارة النهاية مورداً عليها بأنّه لم يعمل بشيء من الشهادتين ، فإيجاب الدية عليهما حكم بغير بيّنة ولا إقرار ، ثم الشهادة ليست بأنّهما اشتركا قال: الجواب ، الوجه: أنّ الأولياء إمّا أن يدّعوا القتل على أحدهما ، أو يقولوا: لا نعلم ، فإن ادّعوه على أحدهما قتلوه ، لقيام البيّنة على الدعوى ، وتهدر البيّنة
- (1) السرائر: 3 / 341 ـ 342 .
- (2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 11 / 49 .
- (3) كشف الرموز: 2 / 614 ـ 615 .
- (4) المهذّب البارع: 5 / 203 ـ 205 .
- (5) التنقيح الرائع: 4 / 435 ـ 436 .
- (6) غاية المراد: 386 ـ 387 ، المسالك: 15 / 192 .