(الصفحة 69)مسألة 34 ـ لو أكرهه على القتل فالقود على المباشر إذا كان بالغاً عاقلاً دون المُكرِه ، وإن أوعده على القتل ، ويحبس الآمر به أبداً حتّى يموت ، ولو كان المُكرَه مجنوناً أو طفلاً غير مميّز فالقصاص على المُكرِه الآمر ، ولو أمر شخص طفلاً مميّزاً بالقتل فقتله ليس على واحد منهما القود ، والدّية على عاقلة الطفل ، ولو أكرهه على ذلك فهل على الرجل المُكرِه القود أو الحبس أبداً ، الأحوط الثاني1..
«تسمل» هو تفقأ أي تقلع بمثل الشوك ، ولكنّ الظاهر أنّه لا خصوصية فيه ، بل المراد هو العمل بعينيه بما يوجب العمى وانتفاء البصيرة ، فيجوز أن تكحل بمسمار محمىَ ونحوه .
1 ـ في هذه المسألة فروع:
الأوّل: ما لو تحقّق الإكراه على القتل وكان كلّ من المُكرِه والمُكرَه بالغاً عاقلاً ، سواء توعّده بالقتل إن لم يقتله أو بغيره ، والحكم فيه عندنا نصّاً وفتوى هو ثبوت القصاص على المباشر دون الآمر ، ومن العامّة من نفي القود والدية عنهما ، ومنهم من حكم بثبوت القود على المُكرِه وحده . والمحكيّ عن الشافعي قولان: الاشتراك في الجناية وثبوت القصاص عليهما ، ومع العفو الدية نصفين ، وثبوت القود على المُكرِه ونصف الدية على المباشر ، وفي صورة العفو على المُكرِه نصف الدّية أيضاً(1) .
ويدلّ على ما ذكرنا ـ مضافاً إلى دلالة النّصوص عليه التي منها الرواية الآتية في حكم المكره ملاحظة ـ أمرين:
- (1) راجع الأم: 6 / 41 ، والمجموع: 20 / 52 ، والمغني لابن قدامة 9 : 331 ، والخلاف: 5 / 167 مسألة 29 .
(الصفحة 70)
أحدهما: إنّ القتل مع الإكراه لا ينسب إلاّ إلى المُكرَه المباشر ، ولا يضاف إلاّ إليه ، والإكراه لا يوجب سلب الإضافة بعد صدور الفعل عن المُكرَه عن إرادة واختيار ، وترجيحه على الضرر المتوعَّد به من ناحية المُكرِه . ويدلّ عليه العرف والعقلاء واللغة أيضاً ، فكما أنّ الإكراه على شرب الخمر مثلاً لا ينافي الإسناد إلى المباشر والحكم بأنّه شارب الخمر ، كذلك الإكراه على القتل ، فالقاتل هو المباشر دون الآمر ، وهذا من الوضوح بمكان .
ثانيهما: إنّ حديث الرفع(1) وإن كان مشتملاً على رفع ما استُكرِهوا عليه ، ويدلّ على رفع الحكم التكليفي والوضعي المترتّب على العمل المُكرَه عليه مع قطع النظر عن الإكراه ، إلاّ أنّه لا يشمل الإكراه على القتل ، وإن توعّده بالقتل ، لما ورد في النص والإجماع من أنّه «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية»(2) بل قد ذكرنا في أوائل كتاب الحدود(3): إنّ إطلاق حديث الرفع لا يشمل كل محرَّم سوى القتل أيضاً ، ضرورة أنّه لا يكاد يسوغ بالإكراه والتوعّد بالضرر المالي مثلاً ـ وإن كان مضرّاً بحاله ـ الزنا ، خصوصاً إذا كان مقروناً بالإحصان ، ولا يخرج عن الحرمة مثل ذلك بمجرّد التوعيد بالإهانة الموجبة لهتك الحيثية وأشباههما .
وبالجملة: كما لا يسوغ قتل الشخص لأكله في المخمصة لأجل الاضطرار ، كذلك لا يجوز قتل الشخص لأجل الإكراه عليه ، فهو القاتل عمداً عدواناً ، والقود عليه لا على المُكرِه . نعم ورد في رواية صحيحة وجوب حبسه حتّى يموت ، وهي ما
- (1) وسائل الشيعة: 11 / 295 ، أبواب جهاد النفس ب 56 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 11 / 483 ، كتاب الجهاد ، أبواب الأمر والنهي ب 31 ح1 و 2 .
- (3) تفصيل الشريعة ، كتاب الحدود : 20 ـ 21 .
(الصفحة 71)
رواه المشايخ الثلاثة بطرق صحيحة عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله ، فقال: يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى يموت . وفي رواية الصدوق: أمر رجلاً حرّاً(1) .
وقال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نقل الرواية: ولا بأس بالعمل بها بعد صحّتها وعمل غير واحد من الأصحاب بها ، فما عساه يظهر من المتن من التوقف في ذلك في غير محلّه(2) .
أقول: لعلّ منشأ توقف المحقّق في الشرائع(3) وجود صحيحة حريز المتقدّمة الدالّة على انحصار التخليد في السجن في الثلاثة ، وهذا المورد ليس منها ، لأنّها عبارة عن الممسك على الموت ، والمرأة المرتدّة ، والسارق في المرّة الثالثة . وهي أيضاً رواية صحيحة لابدّ من ملاحظتها ، وهل يمكن الجمع بينهما بحمل الحصر فيها على الحصر الإضافي ، أو بحمل هذه الرواية على مجرّد الرجحان دون خصوص الوجوب ، والظّاهر استبعاد كلا الجمعين ، فإنّ الحصر الإضافي مع كون الاُمور الثلاثة المذكورة فيها غير مرتبطة وغير مجتمعة تحت جامع في غاية البعد ، كما أنّ الرجحان في باب الحدود والقصاص لا مجال له ولا يقاس بباب العبادات ، كما لايخفى ، فالإنصاف أنّ للتوقّف في المسألة مجالاً .
الثاني: ما لو كان المُكرَه غير مميِّز كالمجنون والطفل غير المميِّزين ، ولا خفاء في ثبوت القصاص في هذا الفرض على المكره الآمر ، لأنّ غير المميِّز بمنزلة الآلة بالإضافة إلى الآمر ، والقتل ينسب إليه لا إلى غير المميِّز ، فالقود عليه .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 32 ، أبواب القصاص في النفس ب 13 ح 1 .
- (2) جواهر الكلام : 42 / 48 .
- (3) شرائع الإسلام: 4 / 975 .
(الصفحة 72)
الثالث: ما لو كان المُكرَه طفلاً مميّزاً ، ويظهر من المتن أنّ فيه صورتين:
إحداهما: ما إذا كان في البين مجرّد الأمر الخالي عن الايعاد والتخويف المتحقّق في الإكراه .
ثانيتهما: ما إذا كان في البين الإكراه المشتمل على التخويف ، والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في الصورة الأُولى في أنّه لا يثبت القود على واحد منهما; إمّا على الآمر فلعدم استناد القتل إليه بعد كون المباشر مميِّزاً ، وإمّا على المباشر فلعدم كونه بالغاً ، والبلوغ معتبر في القصاص . نعم حكي عن الشيخ في المبسوط(1) والنهاية(2)وابن البرّاج في المهذب(3) والجواهر(4) أنّه يقتصّ منه إن بلغ عشراً مستنداً إلى أنّه مقتضى عموم أخبار القصاص ، ويؤيّده ما دلّ على جواز عتقه وصدقته وطلاقه ووصيّته ، وحكي عن الوسيلة(5) أنّ المراهق كالعاقل ، وعن المقنع(6) والمقنعة(7)يقتصّ منه إن بلغ خمسة أشبار ، لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر السكوني : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار اقتصّ منه ، وإذا لم يكن يبلغ خمسة أشبار قضى بالدية(8) .
ولكن يرد على الأوّلين ما دلّ على رفع القلم عن الصبي حتّى يبلغ(9) ، وما دلّ
- (1) المبسوط : 7 / 44 .
- (2) النهاية: 761 .
- (3) لم نعثر عليه .
- (4) جواهر الفقه: 214 مسألة 744 .
- (5) الوسيلة: 438 .
- (6) المقنع : 523 .
- (7) المقنعة: 748 .
- (8) وسائل الشيعة: 19 / 66 ، أبواب القصاص في النفس ب 36 ح1 .
- (9) وسائل الشيعة: 1 / 32 ، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح11 .
(الصفحة 73)مسألة 35 ـ لو قال بالغ عاقل لآخر: اقتلني وإلاّ قتلتك ، لا يجوز له القتل ولا ترفع الحرمة ، لكن لو حمل عليه بعد عدم إطاعته ليقتله جاز قتله دفاعاً بل وجب ، ولا شيء عليه ، ولو قتله بمجرّد الإيعاد كان آثماً ، وهل عليه القود؟ فيه إشكال وإن كان الأرجح عدمه ، كما لايبعد عدم الدية أيضاً1..
على أنّ عمد الصبي وخطأه واحد ، أو أنّ عمد الصبي خطأ(1) ، والحكم بجواز مثل العتق والصدقة لا يستلزم الحكم بثبوت الحرمة التي لا يتحقّق موجب القصاص بدونها .
وأمّا الأخير ، فالرواية معرَض عنها لدى المشهور(2) ، فلا مجال للأخذ بها ، فالظّاهر حينئذ عدم ثبوت القصاص على الصبي ولو كان مراهقاً .
وامّا الصورة الثانية المشتملة على الإكراه ، فقد احتمل فيها في المتن ثبوت القود على المُكرِه بعد عدم ثبوته على المُكرَه لعدم البلوغ ، والحبس أبداً حتّى يموت ، ولكنّ الظاهر أنّه لا وجه للاحتمال الأوّل ; لأنّ عدم البلوغ لا يوجب استناد القتل إلى المُكرِه ، لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين كون المُكرَه مميّزاً أو بالغاً ، ومع عدم الاستناد لا مجال لثبوت القصاص ، فالظاهر هو الاحتمال الثاني ، لو فرض ثبوت الحبس أبداً في الفرع الأوّل من فروع الإكراه .
1 ـ في هذه المسألة جهتان من البحث:
الأُولى: في أنّه على تقدير هذا القول هل يصير قتله مجازاً ومشروعاً ، أو أنّه لا يصير القتل بذلك مشروعاً . والظاهر أنّ هذا القول بمجرّده لا يوجب صيرورة
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 307 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 11 ح2 و 3 .
- (2) راجع مسالك الأفهام: 15 / 87 وجواهر الكلام: 42 / 48 .