(الصفحة 89)مسألة 43 ـ لو كان الجاني في الفرض المتقدّم واحداً دخل دية الطرف في دية النفس على تأمّل في بعض الفروض ، وهل يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس مطلقاً أو لا مطلقاً ، أو يدخل إذا كانت الجناية أو الجنايات بضربة واحدة ، فلو ضربه ففقئت عيناه وشجّ رأسه فمات دخل قصاص الطرف في قصاص النفس; وأمّا إذا كانت الجنايات بضربات عديدة لم يدخل في قصاصها ، أو يفرق بين ما كانت الجنايات العديدة متوالية ، كمن أخذ سيفاً وقطع الرجل إرباً إرباً حتّى مات فيدخل قصاصها في قصاص النفس ، وبين ما إذا كانت متفرّقة كمن قطع يده في يوم وقطع رجله في يوم آخر ، وهكذا إلى أن مات فلم يدخل قصاصها في قصاصها؟ وجوه ، لا يبعد أوجهية الأخير ، والمسألة بعد مشكلة ، نعم لا إشكال في عدم التداخل لو كان التفريق بوجه اندمل بعض الجراحات ، فمن قطع يد رجل فلم يمت واندملت جراحتها ثم قطع رجله فاندملت ثم قتله يقتصّ منه ثم يقتل1..
انقطاع سراية جنايته بجناية الثاني .
نعم لو فرض بقاء السراية بعد القطع الأوّل ، كما لو كانت الآلة مسمومة وسرى السمّ في الدّم ، فإن كان الموت مسبَّباً عنه فقط يثبت القود عليه ، وإن كان مسبَّباًعنه وعن القطع الثاني كان القود عليهما ، لسببية كلتا الجنايتين وعدم ثبوت مزية في البين ، فالقصاص على الشخصين .
1 ـ المراد بالفرض المتقدّم ما إذا كانت الجناية الثانية مؤثِّرة في القتل ومانعة عن سراية الجناية الأولى . والكلام فيه إنّما هو فيما إذا كانت كلتاهما صادرتين من شخص واحد ، تارة من جهة الدية وأخرى من جهة القصاص .
(الصفحة 90)
أمّا الكلام في الدية ، فمحصَّله أنّ الإجماع قائم على أنّ دية الطرف داخلة في دية النفس ، ولكنّ القدر المتيقّن منه إنّما هو ما إذا كانت الدية ثابتة بالأصالة ، بأن كان الحكم الأوّلي المجعول فيه الدية من جهة الجرح والقتل ، وأمّا إذا كانت الدية قد انتقل إليها بعد العفو عن القصاص بحيث قد صولح بها عنه فلا يعلم شمول الإجماع له ، بل يتفرّع ذلك على ملاحظة حكم القصاص من جهة الدخول وعدمه ، كما لايخفى . ولولا الإجماع أو نوقش فيه لأمكن استفادة الحكم في بعض الفروض من صحيحة أبي عبيدة الآتية في بحث القصاص .
وأمّا الكلام في القصاص فتفصيله أنّ فيه أقوالاً أربعة:
القول بالدخول مطلقاً ، وهو الذي اختاره الشيخ في موضع من المبسوط(1)والخلاف(2) ، وحكي عن التبصرة(3) والجامع(4) .
والقول بعدم الدخول مطلقاً ، وهو الذي اختار الشيخ أيضاً في موضع آخر من الكتابين(5) . وقيل : هو خيرة السرائر(6) ، والمحقِّق في نكت النهاية(7) ، وإليه مال ابن زهرة(8).
والتفصيل بين ما إذا كانت الجناية بضربة واحدة ، وبين ما إذا كانت بضربات
- (1) المبسوط: 7 / 22 و 113 .
- (2) الخلاف: 5 / 163 مسألة 23 .
- (3) تبصرة المتعلّمين: 193 .
- (4) الجامع للشرائع: 594 .
- (5) المبسوط: 7 / 21 ، والخلاف : 5/210 ، مسألة 89 .
- (6) السرائر: 3 / 405 ـ 406 .
- (7) نكت النهاية: 3 / 446 .
- (8) غنية النزوع: 408 .
(الصفحة 91)
عديدة ، بالدخول في الأوّل وعدمه في الثاني . وهو الذي اختاره الشيخ في النهاية(1) ، وحكم بأقربيته المحقِّق في الشرائع(2) ، وحكي عن التحرير(3)والإرشاد(4) والتلخيص(5) والمسالك(6) والروضة(7) ، بل نسبه في الأخير إلى أكثر المتأخرين .
والتفصيل بين ما إذا كانت الجنايات العديدة متوالية ، وبين ما إذا كانت متفرّقة ، بالدخول في الأوّل وعدمه في الثاني ، وهو الذي نفى في المتن البعد عن أوجهيته ، وإن قال بعده: والمسألة بعد مشكلة .
ولابدّ من توضيح محلّ هذه الأقوال ومركز البحث والنزاع ، فنقول:
إنّ هنا فرعين: لا إشكال ولا خلاف ظاهراً في الدخول في أحدهما وعدم الدخول في الآخر .
الأوّل: ما إذا كان الموت مسبباً عن سراية الجناية الاُولى ، كما إذا قطع يده فسرت إلى نفسه ، ولا إشكال فيه في عدم ترتّب ما عدى قصاص النفس عليه ، ولا مجال لاحتمال قطع اليد وقصاص النفس معاً .
الثاني: الفرض المذكور في المتن أخيراً ، وهو ما لو اندملت الجراحة ثم تعرّض لقتله ، ولا وجه فيه سوى الحكم بثبوت قصاصين ، وعدم دخول قصاص الطرف
- (1) النهاية: 771 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 977 .
- (3) تحرير الأحكام: 2 / 243 و 254 .
- (4) إرشاد الأذهان: 2 / 199 .
- (5) تلخيص الخلاف: 3 / 136 مسألة 23 .
- (6) مسالك الأفهام: 15 / 98 ـ99 .
- (7) الروضة البهية: 10 / 92 ـ 93 .
(الصفحة 92)
في قصاص النفس .
إذا عرفت هذين الفرعين فاعلم أنّ محل البحث في المقام هو الوسط بين الفرعين ، بمعنى تعدّد الجناية الواقعة فيه ، فيغاير الأوّل لعدم صدور أزيد من جناية واحدة فيه ، وعدم تحقّق الاندمال المانع عن السراية ، فيغاير الثاني لفرض عدم السراية فيه بوجه .
وبعد ذلك يقع الكلام تارة فيما هو مقتضى القواعد والأدلّة العامة الواردة في القصاص ، وأُخرى فيما هو مقتضى الروايات الخاصة الواردة في المقام ، فنقول:
أمّا من جهة القواعد والأدلّة العامة مثل : قوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفسِ وَالعَينَ بِالعَينِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ}إلى آخر الآية(1) . فلا إشكال في أنّ مقتضاه تعدّد القصاص فيما إذا كانت الجنايات العديدة متفرّقة واقعة في أزمنة مختلفة وإن لم يتخلّل بينهما الإندمال ; لأنّ مقتضى الآية جواز قصاص العين بالعين مثلاً مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا تحقّق بعد جناية العين جناية أخرى موجبة للموت ، وما إذا لم تتحقّق جناية كذلك ، لعدم وقوع التقييد فيه .
كما أنّ مقتضى الآية الجواز كذلك من دون فرق بين ما إذا كانت الجنايات العديدة متحقّقة بضربات متعدّدة ، وبين ما إذا كانت متحقّقة بضربة واحدة ، وإن كان ظاهر المحقّق في الشرائع خلافه ، حيث قال في وجه أقربية قول النهاية:
(الصفحة 93)
«لثبوت القصاص بالجناية الأولى ، ولا كذا لو كانت الضربة واحدة»(1) فإنّ ظاهره اقتضاء مثل الآية من الأدلّة العامة للتفصيل الذي اختاره ، مع أنّ الظاهر خلافه ; لعدم وقوع التقييد فيها بما إذا كانت الضربات متعدّدة ; لأنّ مقتضاها وقوع العين في مقابل العين بعنوان القصاص ، من دون فرق بين ما إذا كان جناية القتل واقعة بعدها ، وما إذا لم تقع كذلك .
فكما أنّه لا فرق في قصاص الأطراف مع التعدّد ، بين ما إذا كانت الجنايات الموجبة لقصاصها واقعة بضربات متعدّدة أو بضربة واحدة ، ضرورة أنّه لو ضرب كذلك ، ففقأ العين وقطع الأذن يترتّب عليه قصاصان ، كذلك لا فرق في قصاص الطرف بين ما إذا كان القتل الواقع بعد الجناية على العضو ، بضربة تلك الجناية أو بضربة أخرى متعدّدة .
وأمّا الدخول في مسألة السراية ، فهو إمّا للإجماع ، وإن كان مقتضى القاعدة فيها عدم الدخول أيضاً ، وإمّا لثبوت الفرق بينها وبين المقام ، من جهة تحقّق جناية واحدة فيها فقط متعلّقة بالعضو ، وإن كان يحكم عليه بثبوت القود بالإضافة إلى النفس ، إلاّ أنّ الحكم قد ثبت عليه للإجماع على خلاف مقتضى القاعدة الواردة في موجب القصاص ، وأمّا في المقام فقد تحقّق فيه جنايتان ، ولو كانت الضربة واحدة.
وإن شئت قلت: إذا قطع اليد فسرت فمات ، فهذا ـ أي قطع اليد ـ بمنزلة ضرب العنق المترتّب عليه الموت ، ولا يلاحظ العضو في هذه الصورة مستقلاًّ ، بخلاف المقام الذي يكون المفروض فيه عدم استناد القتل إلى قطع العضو ، بل كان كلّ منهما
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 977 .