(الصفحة 182)
والمحكيّ عن الشيخ (قدس سره)(1) أنّه ألحقه بالسكران الذي هو مورد الرواية ، وحكم فيه بثبوت القصاص مطلقاً . وظاهر المتن عدم ثبوت القصاص كذلك لاقتضاء القاعدة له .
والحقّ ـ بعد عدم جواز التعدّي عن مورد الرواية ، خصوصاً بعد كون الحكم المذكور فيه مخالفاً للقاعدة ، ولا يكون العرف موافقاً لإلغاء الخصوصية ـ الرجوع إلى القاعدة الّتي قد عرفت اقتضاؤها التفصيل المتقدّم .
ثمّ إنّه في جميع هذه الفروض ، لو شكّ في زوال العمد والاختيار في حال صدور القتل ، يكون مقتضى استصحاب عدم الزوال وبقاء الاختيار في تلك الحال تحقّق موجب القصاص ، وهو قتل العمد فيترتّب عليه .
الفرع الرابع: القتل الصادر من النائم أو المغمى عليه ، وفي الجواهر: لا إشكال نصّاً وفتوى في أنّه لا قود على النائم ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لعدم القصد الذي يدرجه في اسم العمد ، وكونه معذوراً في سببه(2) .
والظاهر أنّه لم يرد في خصوص المسألة نصّ ، بل مراده بالنصّ هو النصوص العامّة الواردة في النائم الدالّة على معذوريته ، وعدم ترتّب حكم العمد على عمله ، وقد وقع الاختلاف بعد عدم ثبوت القصاص عليه في أنّ الدية هل يكون في ماله كما في قتل شبه العمد ، أو يكون على عاقلته كما في قتل الخطأ؟ والتحقيق موكول إلى كتاب الديّات .
الفرع الأخير: القتل الصادر من الأعمى ، وتردّد في ثبوت القصاص فيه في المتن .
- (1) المبسوط : 7 / 50 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 188 .
(الصفحة 183)
والمنشأ أنّ المسألة خلافيّة ، فالمحقّق في الشرائع استظهر ثبوت القصاص(1) ، ونسب صاحب الجواهر ذلك إلى أكثر المتأخّرين(2) ، والمحكيّ عن أبي علي(3)والشيخ(4) والصهرشتي والطبرسي(5) وابن حمزة(6) وابن البراج(7) ، بل وعن ظاهر الصدوق عدم ثبوت القصاص عليه(8) ، وعن غاية المراد نسبة هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب(9) ، ومنشأ الاختلاف وجود روايتين في المسألة في مقابل عمومات أدلّة القصاص ، لابدّ من ملاحظتهما من جهة تمامية السند والدلالة وعدمها ، ومن جهة وجود الاختلاف بينهما وعدمه ، فنقول:
الأولى: رواية محمّد الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل ضرب رأس رجل بمعول ، فسالت عيناه على خدّيه ، فوثب المضروب على ضاربه فقتله ، قال: فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : هذان متعدّيان جميعاً ، فلا أرى على الذي قتل الرجل قوداً ، لأنّه قتله حين قتله وهو أعمى ، والأعمى جنايته خطأ يلزم عاقلته ، يؤخذون بها في ثلاث سنين في كلّ سنة نجماً ، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 991 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 188 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 359 مسألة 47 .
- (4) النهاية: 760 .
- (5) حكى عنهما في مفتاح الكرامة: 11 / 32 .
- (6) الوسيلة: 455 .
- (7) المهذّب : 2 / 495 ـ 496 .
- (8) الفقيه: 4 / 93 ح271 .
- (9) غاية المراد: 367 .
(الصفحة 184)
ماله ، يؤخذ بها في ثلاث سنين ، ويرجع الأعمى على ورثة ضاربه بدية عينيه(1) .
وتضعيف سند الرواية ـ كما في المسالك(2) ـ إنّما هو على طريق الشّيخ الذي فيه محمد بن عبدالله بن هلال الذي لم يرد فيه توثيق ، بل ولا مدح ، وأمّا على طريق الصدوق الذي رواه بإسناده عن العلاء فالرواية صحيحة لا مجال للمناقشة فيها من حيث السند .
وأمّا من جهة الدّلالة ، فالظاهر أنّ محطّ النظر في السؤال إلى وقوع القتل عقيب الضرب الموجب لسيلان العينين على الخدّين ، وتحقّق العمى لا بعنوان الدفاع الذي مرجعه إلى كون غرض الضارب قتل المضروب وعدم الاكتفاء بالضرب الكذائي ، بل بعنوان العقوبة على عمله والجزاء على فعله ، بحيث لو لم يتحقّق منه ذلك لم يكن هناك أمر آخر ، فما عن المختلف(3) من حمل الرواية على قصد الدفع مخالف لظاهر السؤال ، مضافاً إلى أنّه مخالف لكثير من الأحكام المذكورة في الجواب ، مثل الحكم بكونه متعدّياً أيضاً ، وبثبوت الدّية على العاقلة أو على نفسه .
وأمّا الجواب: فالظاهر أن قوله (عليه السلام) : «والأعمى جنايته خطأ يلزم عاقلته» يكون الخبر فيه هو «خطأ» بالرفع ، والمقصود إعلام كون جناية الأعمى الصادرة في حال العمد خطأً وموضوعاً للديّة المترتّبة على قتل الخطأ ، كما في التعبيرات الواردة في الصبي والمجنون المشابهة لهذا التعبير . وأمّا احتمال كون «خطأ» منصوباً للحالية ، وجعل الخبر هي الجملة الفعلية التي بعده ، كما في المسالك(4) ، فيدفعه ـ مضافاً إلى
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 306 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 10 ح1 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 167 ـ 168 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 360 مسألة 47 .
- (4) مسالك الأفهام: 15 / 168 .
(الصفحة 185)
عدم اختصاص هذا الحكم بالأعمى ، بل المبصر أيضاً تكون جنايته الصادرة في حال الخطأ على العاقلة ـ أنّ الرواية صريحة في الاستدلال على نفي القود الذي موضوعه القتل العمدي الصادر من الأعمى ، ولا معنى لجعل الكبرى هو كون جناية الأعمى الصادرة في حال الخطأ على عهدة العاقلة . وحمل قوله في السؤال: «فوثب» على صورة الخطأ خطأ واضح ، فلا ينبغي الارتياب في ظهور جملة «الأعمى جنايته خطأ» بل صراحتها في أنّ عمد الأعمى خطأ ، ويترتّب عليه لزوم الدية على العاقلة ، وأنّه لا قصاص فيه بوجه .
الثانية: رواية أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمى فقأ عين صحيح ، فقال: إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الدية في ماله ، فان لم يكن له مال فالدية على الإمام ، ولا يبطل حقّ امرئ مسلم(1) .
ورمي الرواية بضعف السند ـ كما في المسالك(2) ـ أيضاً لا يكون له منشأ إلاّ وجود عمّار الساباطي في السند ، مع أنّه ثقة ، بل من أجلّ الثقات ، فلا مجال لهذا أصلاً .
وأمّا الدلالة فلو كان الجواب مشتملاً على الحكم بثبوت الدية في مورد الرواية لما كان يستفاد منه العدم في جميع موارد جناية الأعمى عمداً; لعدم إمكان القصاص في مورد الرواية كما هو الظّاهر ، وأمّا الجواب بمثل ما ذكر في الرواية ، فهو يدلّ على عدم القصاص في الأعمى مطلقاً ، لإفادته قاعدة كلية ، وهو أنّ عمد الأعمى خطأ ، فإنّ ظاهره شمول الحكم لجميع موارد عمده ، فتدلّ على عدم ثبوت
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 65 ، أبواب القصاص في النفس ب 35 ح1 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 167 ـ 168 .
(الصفحة 186)الشرط السادس: أن يكون المقتول محقون الدم ، فلو قتل من كان مهدور الدم كالساب للنبي(صلى الله عليه وآله) فليس عليه القود ، وكذا لا قود على من قتله بحقّ كالقصاص والقتل دفاعاً ، وفي القود على قتل من وجب قتله حدّاً كاللاّئط .
القصاص فيه .
وقد انقدح ممّا ذكرنا تمامية الروايتين من جهة إفادة عدم القصاص في الأعمى ، ولكن يبقى في البين أمران:
أحدهما: ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) في محكي المسالك(1) من ثبوت الاختلاف بين الرّوايتين ، نظراً إلى اشتمال الأُولى على كون الدية تجب ابتداء على العاقلة ، ومع عدمها تجب على الجاني; واشتمال الثانية على كون الدية تجب على الجاني دون العاقلة ، ومع عدم مال له تثبت على الامام .
ويدفعه أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو بنحو الإطلاق والتقييد الذي لا يكون في الحقيقة اختلافاً ، لوجود الجمع الدلالي عرفاً بينهما ، فيقيّد الحكم بالثبوت على الجاني في الثانية بما إذا لم يكن للأعمى عاقلة ، بشهادة الرّواية الأُولى التي وقع فيها هذا القيد ، كما أنه يستفاد من الثانية ثبوت الدية على الإمام إذا لم يكن للجاني مال ، فيقيّد به إطلاق الأولى لو كان لها إطلاق ، من دون أن يكون بينهما اختلاف بوجه .
ثانيهما: أنّه على تقدير عدم الاختلاف وثبوت الجمع بالنحو المذكور ، يصير حاصل مفاد الروايتين ثبوت الدية على العاقلة أوّلاً ، وعلى الجاني ثانياً ، وعلى الإمام ثالثاً; مع أنّ الشهرة على خلافه ، لعدم كون حكم الخطأ الثبوت على الجاني بعد عدم العاقلة ، فتصير الروايتان معرَضاً عنهما ، فكيف يجوز الاعتماد عليهما .
- (1) مسالك الأفهام: 15 / 168 .