(الصفحة 177)
المقام من النصّ ؟ فنقول:
الظاهر هو التفصيل بين من يعلم بأنّ شربه للمسكر يترتّب عليه القتل نوعاً ، وبين من لا يعلم بذلك ، لأنّ صدور القتل وإن كان في حال زوال الاختيار والخروج عن العمد ، إلاّ أنّ ارتكابه للشرب عن عمد واختيار وتوجّه والتفات مع العلم بترتّب القتل عليه نوعاً بعد تحقّق السكر يجعل القتل قتلاً عمدياً عند العقلاء . وبعبارة أُخرى لا ينفكّ التعمّد للارتكاب مع العلم بالترتّب عن التعمّد للقتل ، فإنّ من علم بأنّه إذا ذهب إلى مجلس فلاني ودخل فيه يترتّب على دخوله تحقّق المعصية وصدور عمل محرَّم اضطراراً أو إكراهاً لا يكون مع التعمّد في الذهاب واختيار الدخول مع العلم بذلك مضطرّاً إلى المعصية أو مكرَهاً عليها ، بل هي معصية عمدية موجبة لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة ، نعم مع عدم العلم بذلك أو عدم الالتفات إليه لا ينبغي المناقشة في عدم الاستحقاق ، لعدم تحقّق المعصية العمديّة .
وليس صدق قتل العمد في الفرض الأوّل لأجل كونه آثماً في شرب المسكر ، بل لأجل صدوره منه اختياراً ، وعليه فلو فرض إباحة الشرب مثلاً يتحقّق التعمّد في القتل أيضاً ، كما في مثال الذهاب إلى المجلس ، حيث لا يكون نفس الذهاب إليه محرَّماً ، نعم في صورة الوجوب في مثل المقام لابدّ من ملاحظة الأهمّ من الحرمة والوجوب ، كما لا يخفى .
الثاني: في ملاحظة مقتضى النصّ ، فنقول : قد ورد في المقام روايتان:
إحداهما: رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسجنهم ، فمات منهم رجلان وبقي رجلان ، فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين اقدهما
(الصفحة 178)
بصاحبينا ، فقال للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقيدهما ، فقال علي (عليه السلام) للقوم: فلعلّ ذينك اللّذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه ، قالوا: لا ندري ، فقال علي (عليه السلام) : بل أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة ، وآخذ دية جراحة الباقيين من دية المقتولين(1) . والظاهر أنّ قوله (عليه السلام) : «فلعلّ ذينك» يستفاد منه مفروغية ثبوت القود عليهما مع العلم بصدور القتل منهما ، وعليه فنفي الحكم بالقود إنّما هو لأجل الشكّ في أصل صدور القتل منهما ، مع لزوم إحرازه في مقام القصاص ، ومقتضاه أنّه لا فرق في ثبوت القود مع العلم بالصدور بين الصورتين اللّتين كان مقتضى القاعدة هو التفصيل بينهما .
والعجب من بعض الأعلام حيث استدلّ بالرواية على التفصيل الذي هو مقتضى القاعدة ، وقال في تقريبه: إنّه لابدّ من حملها على أنّ شربهم المسكر كان في معرض التباعج بالسكاكين المؤدّي إلى القتل عادة ، بقرينة أنّه فرّع فيها ثبوت القود على فرض العلم بأنّ الباقيين قتلاهما ، وعدم ثبوته على فرض عدم العلم بذلك واحتمال أنّ كلاًّ منهما قتل صاحبه(2) .
ومن الواضح أنّه مصادرة على المطلوب . وأمّا ما جعله مؤيِّداً لما أفاده من استفادة الاستمرار والتكرر من التعبير بقوله (عليه السلام) : «كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون» نظراً إلى ظهوره في ترتّب التباعج نوعاً . فيدفعه أنّه لا مجال لهذه الاستفادة في خصوص المقام ، لظهور الرواية في أنّ الرفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مرّة واحدة ، وهي المرّة الواقعة فيها هذه القصّة ، ولو كان العمل متكرّراً والرفع مرّة
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 173 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح 2 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 81 مسألة 87 .
(الصفحة 179)
لكان اللاّزم التقييد بمثل المرّة الأخيرة . مضافاً إلى أنّه مع وحدة القوم المركّب من أربعة نفرات لا معنى لتكرّر التباعج المؤدي إلى القتل ، فبقاؤهم في المرّة التي تحقّق بعدها الرفع دليل على عدم تحقّق القتل في المرّات السابقة ، كما لايخفى .
فالإنصاف ظهور الرواية في ثبوت القصاص في صورة العلم بصدور القتل من الباقيين ، من دون فرق بين الصورتين أصلاً .
ثانيتهما: صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في أربعة شربوا مسكراً ، فأخذ بعضهم على بعض السلاح فاقتتلوا ، فقتل اثنان وجرح اثنان ، فأمر المجروحين فضرب كلّ واحد منهما ثمانين جلدة ، وقضى بدية المقتولين على المجروحين ، وأمر أن تقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية ، فإن مات المجروحان فليس على أحد من أولياء المقتولين شيء(1) .
والظاهر أنّ مورد هذه الرواية والرواية المتقدّمة واحد ، بمعنى أنّه كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) قصّة واحدة مرفوعة إليه ، وهي اشتراك أربعة رجال في شرب المسكر ، والأخذ بعده بالسلاح والسكين ، وتحقّق الاقتتال المؤدّي إلى قتل اثنين وجرح اثنين ، وهذه القصّة محكيّة في الرواية السابقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وفي هذه الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وعليه فهو أيضاً شاهد على بطلان التأييد المتقدّم الذي ذكره بعض الأعلام ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ هذه الرواية لا تعارض الرواية المتقدّمة فيما يرجع إلى القصاص الّذي هو مورد البحث في المقام ، لظهور الاُولى كما عرفت في ثبوت القصاص مع تعيّن القاتل وتشخّصه وإن كان سكراناً . ولا ظهور في هذه الرواية في خلافه ، لعدم التعرّض
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 172 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح1 .
(الصفحة 180)
لهذه الجهة . وظهورها في عدم القصاص في المورد إنّما هو لأجل عدم تعيّن القاتل في مثل المورد ، كما يقتضيه طبع القصة ، فإنّه مع تحقّق القتل في مثله لا طريق إلى تشخيص القاتل مع عدم حضور الشاهد، بل ومع الحضور نوعاً لأنّه لا يمكن التشخيص كذلك . ومن المعلوم أنّ رفع الخصومة كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) مبنيّاً على الموازين والضوابط المعمولة ، لا على الاعتماد على مثل علم الغيب . وعليه فعدم الحكم بالقصاص في المورد لأجل عدم وضوح القاتل وعدم الطريق إلى تعيينه، فلا ينافي ما دلّ على القصاص مع العلم به وتعيّنه ، كما هو الظاهر من الرواية الأولى .
إلاّ أن يُقال: إنّ الحكم بثبوت دية المقتولين على خصوص المجروحين كما في الرواية لا يستقيم إلاّ مع العلم بصدور القتل منهما ، لأنّه لا مجال له بدون العلم به ، وعليه فتدلّ الرواية على نفي القصاص مع تعيّن القاتل ، فتعارض مع الرواية الاُولى .
ولكنّه مدفوع بأنّه لا إشعار في الرواية بهذه الجهة ، وقد عرفت أنّ مقتضى طبع القصّة هو الإبهام وعدم التعيّن ، خصوصاً مع صراحة النقل الأوّل فيه ، غاية الأمر أنّ الحكم بثبوت الدية على المجروحين حكم تعبّدي مغاير للرواية الأولى الدالّة على ثبوت الدية على قبائل الأربعة ، ولا مجال لاستفادة ما ذكر منه ، فالإنصاف أنّه لا تعارض بين الروايتين فيما يرجع إلى المقام ، وهو ثبوت القصاص على السكران القاتل .
وبعد ذلك يقع الكلام في ترجيح القول بعدم القصاص كما في المتن ، فهل يكون منشأه استفادة العدم من الصحيحة وترجيحها على رواية السكوني ، لعدم بلوغها في الاعتبار إلى مرتبة الصحيحة ، بل رواية السكوني حجّة فيما لم يكن على خلافها
(الصفحة 181)
رواية معتبرة ، كما هو المحكيّ عن الشيخ (قدس سره) في العدة(1) ، ومنشأ الاستفادة ما ذكرنا من الحكم بثبوت الدية على المجروحين .
أو أنّ منشأه وجود المعارضة بين الروايتين وتساقطهما لأجل عدم ثبوت مزيّة في البين ، فاللاّزم الرجوع إلى القاعدة ، وهي تقتضي عدم ثبوت القصاص .
فإن كان المنشأ هو الأوّل فقد عرفت عدم تمامية الاستفادة المزبورة ، وإن كان المنشأ هو الثاني كما هو الظاهر من المتن فقد عرفت أنّه لا تعارض بين الروايتين أوّلاً ، وعدم كون القاعدة مقتضية لعدم القصاص ثانياً ، بل مقتضاها التفصيل ، كما مرّ في المقام الأوّل .
الفرع الثاني: السكران غير الآثم مع خروجه عن العمد والاختيار في حال صدور القتل ، والظاهر لزوم الرجوع فيه إلى القاعدة التي قد عرفت أنّ مقتضاها التفصيل بين صورة الجهل بترتّب القتل على شربه فلا يتحقّق موجب القصاص ، وبين صورة العلم به ، فاللاّزم الحكم به مع اتصاف الشرب بالإباحة ، وملاحظة الأهمّ والمهمّ مع الاتصاف بالوجوب .
ومن الواضح أنّه لا يستفاد حكم هذا الفرع من النصّ ، بعد كون مورده الشرب المحرَّم بقرينة إجراء حدّ الشرب عليه ، كما في الصحيحة المتقدّمة ، وعدم وضوح إلغاء الخصوصية بدعوى أنّ الحكم المذكور فيه هو حكم السكران القاتل ، من دون فرق بين كون الشرب محرّماً أو غيره ، كما لا يخفى .
الفرع الثالث: استعمال ما يسلب العمد والاختيار كالبنج والمرقد وغيرهما ،
- (1) عُدّة الأصول: 1 / 380 .