(الصفحة 196)
وأخذني البول فدخلت الخربة فرأيت الرجل متشحّطاً في دمه ، فقمت متعجِّباً! فدخل عليَّ هؤلاء فأخذوني ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن ، وقولوا له: ما الحكم فيهما؟ قال: فذهبوا إلى الحسن وقصّوا عليه قصّتهما ، فقال الحسن (عليه السلام) : قولوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) : إن كان هذا ذبح ذاك فقد أحيى هذا ، وقد قال الله عزّوجلّ:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعَاً}(1) . يخلّى عنهما وتخرج دية المذبوح من بيت المال .
ورواه الشيخ باسناده عن علي بن إبراهيم نحوه ، ورواه أيضاً مرسلاً نحوه ، ورواه الصدوق باسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) نحوه(2) ، ولكنّه ربّما يقال: بأنّ ما في الوسائل من أنّ الصدوق رواه بالإسناد المذكور إنّما هو سهو من قلم صاحب الوسائل(3) .
وكيف كان فالظاهر أنّ الحكم الأوّل بإجراء القصاص عليه لابدّ وأن يحمل على وجود شرائطه ، ومنها اختيار الولي ذلك ، أو كون المورد ممّن لا وليّ له غير الإمام ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من شهود جماعة هو شهودهم لكون الرجل مذبوحاً ، وكون الآخر قائماً عليه وبيده سكين كذائي لا شهادتهم على القتل . كما أنّ خوفه من الضرب الموجب للإقرار لا يستلزم كون إقراره لا عن اختيار ، لعدم تحقّق توعيد وتهديد من ناحية الجماعة المذكورين بوجه ، والخوف الباطني من دون اقتران بالتوعيد لا يوجب تحقّق الإكراه ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الإقرار وقع عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفي ذلك الوقت لا يحتمل الضرب أصلاً .
- (1) المائدة 5 : 32 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 107 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 4 ح1 .
- (3) انظر مباني تكملة المنهاج: 2 / 95 مسألة 97 .
(الصفحة 197)
ثمّ إنّ الرواية مضافاً إلى كونها ضعيفة السند مخالفة للقاعدة ، لأنّ مقتضاها فيما إذا كان هناك إقراران تخيير وليّ المقتول في الرجوع إلى أحد المقرّين والاقتصاص منه ، ورجوع المقرّ الأوّل عن إقراره بعد الإقرار الثاني لا يستلزم عدم جواز رجوع الولي إليه ، لأنّه لا أثر للرجوع بعد الإقرار ، كما قد تحقّق في كتاب الإقرار ، فمقتضى القاعدة في مورد الرواية أيضاً المشتمل على الرجوع تخيير الوليّ في الاقتصاص ، فالرواية مخالفة للقاعدة .
كما أنّ استدلال الإمام الحسن (عليه السلام) لسقوط القصاص عنهما بأنّ المقرّ الثاني إن كان ذبح المقتول فقد أحيى المقرّ الأوّل المحكوم بالقصاص ، مستشهداً بقوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعَاً} ممّا لا يكون مبيَّناً لنا ، ولا يبتنى الفقه عليه على الضوابط الموجودة والقواعد المحقَّقة ، فإنّه إذا أقرّ شخص بقتل زيد مثلاً وصار محكوماً بالقصاص فهل يرتفع قصاصه إذا منع عمراً من قتل بكر ، بحيث لو لم يتحقّق المنع لكان القتل متحقّقاً قطعاً مع أنّ الدليل المذكور يجري فيه .
وعليه فالاستدلال المذكور غير مبيَّن لنا ، ولكنّه لا يقدح في ظهور الرواية من حيث الدلالة على سقوط القصاص عنهما ، فلو فرض انجبار ضعف السند بعمل الأصحاب واستناد المشهور إليه لابدّ من الحكم على طبق الرواية ، كما نفى البأس عنه في المتن . والظاهر ثبوت الاستناد ، فعن التنقيح(1) وغاية المرام(2): عليها عمل الأصحاب ، وعن السرائر نسبته إلى رواية أصحابنا(3) .
- (1) التنقيح الرائع: 4 / 434 .
- (2) غاية المرام: 4 / 393 .
- (3) السرائر: 3 / 343 .
(الصفحة 198)
وأمّا ما عن المسالك(1) وأبي العباس(2) من المخالفة ـ نظراً إلى إرسال الرواية وإلى اقتضاء ذلك إسقاط حق المسلم ، لجواز التواطؤ من المقرّين على قتله وإسقاط القصاص والدية ـ فيدفعه أنّ الإرسال لا يقدح مع الانجبار ، والاعتبار المذكور لا ينهض في مقابل الرواية المنجبرة . مضافاً إلى بطلانه في نفسه ، لأنّ المفروض أنّه لا طريق إلى إحراز القتل غير الإقرار ، وعليه فلا ملزم للتواطؤ المذكور بعد إمكان عدم الإقرار من واحد منهما من رأس ، كما لا يخفى .
ثم إنّ الرواية حيث تكون مخالفة للقاعدة يقتصر في الحكم على طبقها على خصوص موردها ، وعليه فلو لم يرجع المقرّ الأوّل عن إقراره بعد الإقرار الثاني بل بقى على إقراره يرجع فيه إلى القاعدة التي عرفت أنّ مقتضاها تخيير الولي في الرجوع والاقتصاص ، وإن كان مقتضى الاستدلال المذكور في الرواية عدمه .
وأمّا لو لم يكن بيت مال للمسلمين مع ثبوت المال للمقرّين فلايبعد ـ كما في المتن ـ عدم تغيّر الحكم ، لأنّ التأدية من بيت المال إنّما هو لئلاّ يبطل دم مسلم ، فإذا فرض إمكان التأدية من مال المقرِّين بالاشتراك أو بالتخيير لا يوجب تحقّق البطلان ، وعليه فسقوط القصاص عنهما بحاله ، فتدبّر .
وهذا بخلاف ما إذا لم يكن مال لهما أيضاً ، فإنّه يشكل الحكم حينئذ من جهة أنّ سقوط القصاص مستلزم للبطلان المذكور ، ومن جهة أنّ سقوط القصاص ولزوم أداء المال أمران ، فإذا لم يمكن الثاني كما هو المفروض يبقى الأوّل بحاله ، ولأجله استشكل في المتن في القود ، ومقتضى الاحتياط العدم ، كما هو ظاهر .
- (1) مسالك الأفهام: 15 / 177 ، الروضة البهية: 10 / 70 .
- (2) المهذّب البارع: 5 / 202 .
(الصفحة 199)
الثاني: البيّنة
لا يثبت ما يوجب القصاص سواء كان في النفس أو الطرف إلاّ بشاهدين عدلين ، ولا اعتبار بشهادة النساء فيه منفردات ولا منضمّات إلى الرجل ، ولا توجب (لايجب ـ ظ) بشهادتهنّ الدية فيما يوجب القصاص ، نعم تجوز شهادتهنّ فيما يوجب الدية كالقتل خطأ أو شبه عمد ، وفي الجراحات التي لا توجب القصاص كالهاشمة وما فوقها ، ولا يثبت ما يوجب القصاص بشهادة شاهد ويمين المدّعي على قول مشهور1..
1 ـ لا إشكال ولا خلاف في ثبوت القتل الموجب للقصاص وكذا الجناية على العضو الموجبة له بشاهدين عادلين ، كما أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في عدم ثبوته بشهادة النساء منفردات ، وأمّا مع الانضمام فالمحكيّ عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط(1)والعلاّمة(2) وبعض آخر(3) الثبوت به ، وعن جماعة منهم الشيخ في النهاية(4) ثبوت الدية بدلاً عن القصاص ، وحكم المحقِّق في الشرائع بشذوذه(5) ، وصريح المتن عدم ثبوت القصاص ولا الدية .
نعم تجوز شهادتهنّ ولو منفردات في الأمور المالية; كالقتل خطأً أو شبه عمد ، وكالجراحات التي حكم الشارع في موردها بالدية ، كالهاشمة المؤثّرة في كسر العظم
- (1) حكاه عن مبسوطه العلاّمة في المختلف: 8 / 483 مسألة 74 ، وكذا الشهيد في المسالك:15 / 178 ، ولكن في المبسوط: 8 / 172 قوّى الثبوت واستثنى القصاص .
- (2) مختلف الشيعة : 8 / 483 مسألة 74 .
- (3) كابن أبي عقيل ، حكى عنه في المختلف: 8 / 474 و 483 مسألة 74 والمحقّق في الشرائع: 4/921 .
- (4) النهاية: 333 .
- (5) شرائع الإسلام: 4 / 993 .
(الصفحة 200)مسألة 1 ـ يعتبر في قبول الشهادة بالقتل أن تكون الشهادة صريحة أوكالصريحة نحو قوله: «قتله بالسيف» أو «ضربه به فمات» أو «أراق دمه فمات منه» . ولو كان فيه إجمال أو احتمال لا تقبل ، نعم الظاهر عدم الاعتبار بالاحتمالات العقلية التي لا تنافي الظهور أو الصراحة عرفاً ، مثل أن يقال في
قوله: «ضربه بالسيف فمات» ، يحتمل أن يكون الموت بغير الضرب ، بل الظاهر اعتبار الظهور العقلائي ، ولا يلزم التصريح بما لا يتخلّل فيه الاحتمال عقلاً1..
التي تكون ديتها عشرة أبعرة ظاهراً ، والتحقيق في هذا الباب موكول إلى كتاب الشهادات . كالبحث في الاكتفاء بشاهد ويمين فيما يوجب القصاص ، كما هو المنسوب إلى المشهور .
1 ـ الظاهر أنّ القتل ليس له خصوصية موجبة لاعتبار كون شهادته بنحو الصراحة التي لا يجري فيها احتمال الخلاف ولو عقلاً ، بل هو كسائر الموضوعات التي يكفي في ثبوتها دلالة الشهادة عليه ، ولو بنحو الظهور العرفي الذي مرجعه إلى عدم وجود احتمال عقلائي معتدّ به على خلافه ، وإن كان هناك احتمال الخلاف عقلاً .
وشبهة ثبوت الإجماع في خصوص المقام ، كما تشعر بها عبارة الجواهر(1)مندفعة بظهور عدم تحقّق الإجماع في المقام ، بل ولم يتحقّق دعوى الإجماع أيضاً . والتعبير بلزوم كون الشهادة صافية عن الاحتمال كما في الشرائع(2) يكون المراد به
- (1) جواهر الكلام: 42 / 210 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 993 .