(الصفحة 21)
ولكن المحكي عن الشيخ في المبسوط: أنّه عمد(1) ، كالمورد الثالث إمّا مطلقاً كما حكاه عنه بعض(2) ، أو في خصوص الأشياء المحدّدة فقط ، كما هو مقتضى العبارة المحكية عنه في كشف اللثام(3) .
وأمّا بالنظر إلى الرواية ، فقد ذكر المحقّق في الشرائع: أنّ فيه روايتين : أشهرهما أنّه ليس بعمد يوجب القود(4) . ومراده هو الطائفتان من الروايات ، لا خصوص روايتين ، ولابدّ قبل ملاحظتهما من النظر في أنّ مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن الرواية هل هو الوجه الأوّل أو الثاني .
فنقول: ظاهر الجواهر بل صريحه هو الأوّل ، نظراً إلى أنّه لا مدخلية للقصد في صدق القتل عرفاً ، بل ولا في صدق القتل عمداً; لأنّ معناه حصوله على جهة القصد إلى الفعل عدواناً الذي حصل به القتل ، وإن كان ممّا يقتل نادراً . إذ ليس في شيء من الأدلّة العمد إلى القتل ، بل ولا العرف يساعد عليه ، فإنّه لا ريب في صدق القتل عمداً على من ضرب رجلاً عادياً غير قاصد للقتل ، أو قاصداً عدمه فاتّفق ترتّب القتل على ضربه العادي منه المتعمّد له(5) .
ويدلّ عليه عدم ثبوت قصد القتل في المورد الثالث من موارد القتل عمداً ، فيظهر منه عدم كون إرادة القتل دخيلة في تحقّق عنوان العمد أصلاً ، ولكنّ الظّاهر خلاف ما أفاده ، نظراً إلى عدم صدق تفسير الموجب للقصاص عليه وعدم
- (1) المبسوط: 7 / 16 .
- (2) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 15 / 68 .
- (3) كشف اللثام: 2 / 439 .
- (4) شرائع الإسلام: 4 / 971 .
- (5) جواهر الكلام : 42 / 17 ـ 18 .
(الصفحة 22)
مساعدة العرف أيضاً ، فإنّه لا يقال لمن ضرب الغير بالكفّ مثلاً ضربة واحدة غير مؤثّرة في القتل نوعاً ، ولكن اتّفق موته بسببها على خلاف الغلبة: أنّه تحقّق منه قتل العمد وأزهق النفس المحترمة عمداً . وقد ذكرنا أنّ ثبوت هذا العنوان في المورد الثالث إنّما هو بلحاظ عدم انفكاك قصد القتل عن قصد الفعل مع الإلتفات إلى كون الآلة قتّالة ، وإن كان مقصوده الأصلي غير القتل ، وعليه فالظّاهر أنّ مقتضى القاعدة عدم تحقّق العمد في المقام .
وأمّا الروايات ، فطائفة منها ظاهرة في ذلك ، مثل صحيحة فضل بن عبدالملك المتقدّمة في المورد الثالث ، نظراً إلى قوله: «سألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفّارة ، أهو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله؟ قال: نعم» . فإنّ مقتضاه تحقّق الخطأ الذي يكون المراد به شبه العمد مع عدم قصد القتل ، وعدم كون الآلة قتّالة ، كما هو المفروض في كلام الإمام (عليه السلام) قبل هذا السؤال وهو الضرب بالحديدة ، وكذا صحيحة أبي العبّاس وزرارة المتقدّمة في المورد الثالث أيضاً ، فإنّ قوله (عليه السلام) : «والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله ، يقتله بما لا يقتل مثله» ظاهر في تحقّق الخطأ بالمعنى المذكور مع اجتماع عدم إرادة القتل ، وكون الفعل غير مؤثِّر في القتل نوعاً .
وكذا صحيحة اُخرى لأبي العباس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أرمي الرجل بالشيء الذي لايقتل مثله، قال: هذا خطأ ، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها، قلت: أرمي الشاة فأُصيب رجلاً، قال: هذا الخطأ الذي لا شكّ فيه ، والعمد الذي يضرب بالشيء الذي يقتل بمثله(1) فإنّ الظاهر أو القدر المتيقّن من قوله: «أرمي الرجل» هو الرمي الخالي عن إرادة القتل ، فتدلّ الرواية على كونه خطأ.
(الصفحة 23)
وجملة منها ظاهرة في تحقّق العمد في المقام ، مثل رواية أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو أنّ رجلاً ضرب رجلاً بخزفة أو بآجرة أو بعود فمات كان عمداً(1) . فإنّ ظاهره إمّا خصوص صورة إرادة مجرّد الضرب دون القتل ، أو أنّ مقتضى إطلاقه الشمول لهذه الصورة ، وعلى أيّ حال فتدلّ الرواية على تحقّق العمد في المقام .
ومرسلة جميل بن دراج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قتل العمد كلّ ما عمد به الضرب فعليه القود ، وإنّما الخطأ أن تريد الشيء فتصيب غيره . الحديث(2) فإنّ مقتضى إطلاق إرادة الضرب الشمول لما إذا كان المراد الضرب فقط في مقابل القتل .
وصحيحة الحلبي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : العمد كلّ ما اعتمد شيئاً فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة ، فهذا كلّه عمد ، والخطأ من اعتمد شيئاً فأصاب غيره(3) ، نظراً إلى أنّ الآلات المذكورة فيها التي لا تكون قتّالة نوعاً شاهد على عدم كون المراد من قوله: «اعتمد شيئاً» هو قصد قتله وإرادة إزهاق نفسه فقط ، لعدم اجتماعه مع شيء من هذه الآلات ، بل أعمّ منه وممّا إذا كان المراد مجرّد الضرب فقط . وغير ذلك من الروايات .
واللاّزم
أن
يقال:
إمّا
بلزوم
تقييد
إطلاقات الطائفة
الثانية
على
تقدير
ثبوت الإطلاق لها ، كما عرفت في بعضها بمقتضى الطائفة الأُولى الظاهرة بل الصريحة في عدم تحقّق العمد في المقام ، وإمّا بلزوم ترجيح الطائفة الأُولى على الثانية على فرض
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 8 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 25 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 6 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 24 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 3 .
(الصفحة 24)مسألة 2 ـ العمد قد يكون مباشرة: كالذبح والخنق باليد والضرب بالسيف والسكين ، والحجر الغامز ، والجرح في المقتل ، ونحوها ممّا يصدر بفعله المباشري عرفاً ففيه القود ، وقد يكون بالتسبيب بنحو ، وفيه صور نذكرها في ضمن المسائل الآتية1..
ثبوت التعارض للشهرة الفتوائية المحقّقة كمامرّ فتصير النتيجة موافقة للطائفة الأُولى.
1 ـ قد مرّ في تعريف موجب القصاص أنّ المدار فيه إنّما هو على قتل النفس المحترمة عمداً ، كما أنّ المستفاد من الروايات المتقدّمة أيضاً ذلك ، وعليه فلابدّ في تحقّق ذلك من إضافة القتل إلى الفاعل واتّصافه بوقوعه عن عمد ، وقد مرّ أيضاً أنّ موارد العمد لا يتجاوز عن ثلاثة ، فاللاّزم في جميع موارد ثبوت القصاص من تحقّق هذا العنوان إلاّ فيما إذا ثبت بدليل خاصّ على خلاف القاعدة ، وعليه فليس في شيء من الأدلّة عنوان الحكم بلفظ المباشرة والسبب ، بل الموجود فيها هو عنوان قتل العمد .
ولكنّ العمد قد يتحقّق بالمباشرة ، كالأمثلة المذكورة في المتن ، وكسقي السمّ القاتل بإيجاره في حلقه ، وبعض التزريقات المهلكة ، وغير ذلك من موارد صدور القتل المباشر ، ولا إشكال في ثبوت القصاص في جميع هذه الموارد .
وقد يتحقّق بالتسبيب لا مطلقاً ، بل ببعض مراتبه وهو ما إذا انفرد الجاني بالتسبيب المتلف ، وفيه صور مذكورة في ضمن المسائل الآتية .
وأمّا الشرط فلا يجب به قصاص أصلاً ، لعدم تحقّق عنوان قتل العمد بسببه ، لأنّ المراد به ما يقف عليه تأثير المؤثِّر من دون أن يكون دخيلاً في العلّة للزهوق ، مثل حفر البئر بالنسبة إلى الوقوع فيها ، فإنّ الوقوع مستند إلى علّته وهي
(الصفحة 25)مسألة 3 ـ لو رماه بسهم أو بندقة فمات فهو عمد ، عليه القود ولو لم يقصد القتل به ، وكذا لو خنقه بحبل ولم يزح عنه حتّى مات ، أو غمسه في ماء ونحوه ومنعه عن الخروج حتى مات ، أو جعل رأسه في جراب النورة حتى مات ، إلى غير ذلك من الأسباب التي انفرد الجاني في التسبيب المتلف فهي من العمد1..
التخطّئ ، والبئر شرط للتأثير بمعنى أنّه لو لم يحفرها لم يتحقّق القتل أصلاً ، لكنّه لم يكن دخيلاً في الوقوع ، بل الوقوع مستند إلى ما ذكر من التخطّئ ، وهو موجب لتحقّق القتل .
وبالجملة: فالضابط ما ذكرنا من صدق عنوان قتل العمد من دون أن يكون عنوان آخر دخيلاً في الحكم ، فلابدّ في الحكم بثبوت القصاص من ملاحظة تحققه ، وعليه ففي جميع المسائل الآتية ليس المدار غير ما ذكر .
1 ـ هذه هي الصورة الأُولى من صور انفراد الجاني بالتسبيب المتلف ، والحكم بثبوت القود في الفرض الأوّل إنّما هو لأجل كون مثل السهم والبندقة من الآلات المؤثِّرة في القتل غالباً ، وعليه فلا فرق بين ما إذا قصد القتل به وبين ما إذا لم يقصد ، لما عرفت من اشتراك كلّ من الفرضين في تحقّق عنوان العمد مع كون الآلة كذلك ، أي مؤثِّرة في القتل غالباً ، لكن لابدّ من تقييد ذلك بما إذا وقع في المقتل ، فإنّه لو أراد برميه غير المقتل فأصاب المقتل ، كما إذا كان المراد من رميه هو الوقوع في الرِجل الذي لا يؤثِّر في القتل نوعاً ، ولكنّه أصاب المقتل على خلاف ما أراد ، فالظاهر عدم تحقّق قتل العمد ، بل لايبعد أن يقال بكونه من مصاديق قتل الخطأ المحض ، فإنّ قوله (عليه السلام) في بعض الروايات المتقدّمة: «إنّما الخطأ أن تريد شيئاً فتصيب غيره» يشمل بإطلاقه مثل المقام الذي أراد ضرب الرجل فأصاب المقتل ، فإنّه لافرق بينه