(الصفحة 211)
المقرّ بعد اقتضاء إقراره عدم استحقاق الديه مع قصاصه بوجه ، كما أنّه في صورة قتل المقرّ فقط لا يجب على المشهود عليه ردّ نصف الدية إلى ورثة المقرّ بعد الاقتضاء المذكور . نعم في صورة قتل المشهود عليه يجب على المقرّ ردّ نصف الدية إلى ورثته ، كما أنّه في صورة اختيار الدية يجب على كلّ منهما أداء النصف ، كما هو ظاهر .
وأمّا الصورة الثانية: فهل مقتضى القاعدة فيها التساقط ، كما في تعارض البيّنتين على ما مرّ ، أو التخيير كما في تعارض الإقرارين على ما مرّ أيضاً ، أو الأخذ بخصوص الإقرار وعدم ترتيب الأثر على البيّنة؟ وجوه:
والظاهر هو الوجه الأخير ; لأنّ بناء العقلاء على الأخذ بالإقرار وترجيحه على البيّنة المعارضة كما يظهر من المراجعة إليهم ، ولعلّ منشأه أنّ الإقرار شهادة على النفس والبيّنة شهادة على الغير ، ومن الواضح أنّ الأوّل أقوى ، كما لا يخفى .
وأمّا الرواية فهي رواية زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قتل فحمل إلى الوالي ، وجاءه قوم فشهد عليه الشهود أنّه قتل عمداً ، فدفع الوالي القاتل إلى أولياء المقتول ليقاد به ، فلم يريموا حتّى أتاهم رجل فأقرّ عند الوالي أنّه قتل صاحبهم عمداً ، وأنّ هذا الرجل الذي شهد عليه الشهود بريء من قتل صاحبه ، فلا تقتلوه به وخذوني بدمه؟
قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام) : إن أراد أولياء المقتول أن يقتلوا الذي أقرّ على نفسه فليقتلوه ولا سبيل لهم على الآخر ، ثمّ لا سبيل لورثة الذي أقرّ على نفسه على ورثة الذي شهد عليه ، وإن أرادوا أن يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوا ولا سبيل لهم على الذي أقرّ ، ثم ليؤدّ الدّية الذي أقرّ على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية ، قلت: أرأيت إن أرادوا أن يقتلوهما جميعاً؟ قال: ذاك لهم ، وعليهم أن يدفعوا
(الصفحة 212)
إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصّاً دون صاحبه ، ثم يقتلونهما .
قلت: إن أرادوا أن يأخذوا الدّية؟ قال: فقال: الدّية بينهما نصفان ، لأنّ أحدهما أقرّ والآخر شُهد عليه ، قلت: كيف جعلت لأولياء الذي شهد عليه على الذي أقرّ نصف الدية حيث قتل ، ولم تجعل لأولياء الذي أقرّ على أولياء الذي شهد عليه ولم يقرّ؟ قال: فقال: لأنّ الذي شهد عليه ليس مثل الّذي أقرّ ، الذي شهد عليه لم يقرّ ولم يبرأ صاحبه ، والآخر أقرّ وبرأ صاحبه ، فلزم الذي أقرّ وبرأ صاحبه ما لم يلزم الذي شهد عليه ولم يقرّ ولم يبرأ صاحبه(1) .
والمراد بقول زرارة في صدر السؤال: «رجل قتل» هو المتّهم بالقتل ، لا الصدور منه قطعاً . والمراد بقوله (عليه السلام) : «لا سبيل لهم على الآخر . . . أو على الذي أقرّ» هو عدم السبيل من جهة أخذ الدية ، ويحتمل أن يكون المراد أنّه مع اختيار قتل أحدهما ، ثم القتل لا يبقى له مجال لقتل الآخر مع تجدّد الإرادة ، وإن كان يجوز له أوّل الأمر اختيار قتل كليهما .
ثم لم يتبيّن وجه التعبير بالورثة أو الأولياء في كلام الإمام والسائل في صورة قتل المقرّ ، مع أنّ المشهود عليه حينئذ بنفسه باق ، وعل تقدير لزوم الأداء لابدّ أن يكون المؤدّى هو المشهود عليه لا الورثة ، كما لا يخفى .
وهل الرواية ناظرة إلى كلتا صورتي المسألة ، أو تختصّ بخصوص صورة احتمال الشركة وعدم العلم بعدمها ، أو بخصوص صورة العلم بعدم الشركة؟
يظهر الأوّل من صاحب الجواهر(2) ، والثاني من بعض الأعلام(3) ، والثالث من
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 108 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 5 ح1 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 224 .
- (3) مباني تكملة المنهاج: 2 / 100 ـ 101 مسألة 108 .
(الصفحة 213)
المحقّق في الشرائع ، حيث أنّه بعد نقل مفاد الرواية والإشارة إليها قال: وفي قتلهما إشكال لانتفاء الشركة ، وكذا في إلزامهما بالدية نصفين ، ثم قال: والقول بتخيير الوليّ في أحدهما وجه قوي ، غير انّ الرواية من المشاهير(1) .
فإنّ التعليل بانتفاء الشركة ظاهر في أنّ المورد صورة العلم بعدمها ، وإن فسّره في الجواهر بقوله: كما هو مقتضى البيّنة والإقرار ، وخصوصاً مع علم المدعي بعدم ذلك(2) ، إلاّ أنّ الظاهر عدم كون هذا التفسير مراداً للمصنّف ، بل انتفاء الشركة إنّما هو مع قطع النظر عن البيّنة والإقرار .
وكيف كان فيظهر من تفسير صاحب الجواهر أنّ الرواية عنده ناظرة إلى الصورتين ، غاية الأمر حمل عبارة المتن أيضاً على ذلك .
والظاهرهوالوجه الأخير; لأنّه بملاحظة هذه المسألة مع المسألة المتقدّمة الواردة في تعارض البيّنتين يظهرأنّه لااختلاف بين المسألتين من حيث المورد، وأنّ الاختلاف يرجع إلى كون التعارض هناك إنّما هو بين البيّنتين ، وهنا بين البيّنة والإقرار .
فلو كانت هذه المسألة لها صورتان والرواية ناظرة إلى كلتيهما لكان اللاّزم هناك أيضاً تصويرهما ، والفرق بين الصورتين خصوصاً مع أنّه لم يرد هناك نصّ ظاهر معتبر . وعليه كان اللاّزم إجراء أحكام الشركة في القتل في إحدى الصورتين ، مع أنّه لم ينقل عن أحد ذلك كما تقدّم .
فيظهر أنّ المورد صورة العلم بالعدم مع قطع النظر عن البيّنتين ، وعليه فمورد مسألتنا هذه أيضاً تكون هذه الصورة .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 995 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 224 .
(الصفحة 214)
نعم يمكن أن يقال: بأنّ مورد المسألة وإن كانت صورة واحدة ، إلاّ أنّه لا يمنع أن تكون الرواية بنفسها ناظرة إلى كلتا الصورتين أو الصورة المقابلة لتلك الصورة .
ولكنّ الظاهر أنّ الأصحاب بأجمعهم قد فهموا من الرواية صورة العلم بعدم الشركة ، أعمّ ممّن عملوا بها وأفتوا على طبقها ، وممّن لم يعملوا بها وأفتوا على طبق القاعدة باعتقادهم .
أمّا العاملون بها ـ كما هو المشهور ـ بل في محكي الرياض: قد صرّحوا بشهرة الرواية مشعرين ببلوغها درجة الإجماع(1) ولعلّه كذلك ، فقد أفتى به الشيخ(2)وأتباعه(3) والإسكافي(4) والحلبي(5) وغيرها ، بل لم نرَ لهم مخالفاً عدا من مرّ ، وعبائرهم غير صريحة في لمخالفة عدا الحلي(6) وفخر الدين(7) . إلى آخره»(8) .
فلأنّهم تمسّكوا بها في مسألة تعارض البيّنة والإقرار التي أوردوها عقيب مسألة تعارض البينتين التي عرفت أنّ موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ولذا لم يقل أحد فيها بجواز قتل كلا المشهود عليهما . والظاهر اتّحاد مورد المسألتين كما مرّ آنفاً ، فيظهر أنّهم قد فهموا من الرواية خصوص هذه الصورة .
وأمّا غير العاملين بالرواية إمّا لأجل عدم حجّية خبر الواحد ، أو لأجل كونها
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 995 ، مسالك الأفهام: 15 / 194 .
- (2) النهاية: 743 .
- (3) المهذّب: 2 / 502 ، إصباح الشيعة: 493 ـ 494 ، غنية النزوع: 407 .
- (4) حكاه عنه في مختلف الشيعة: 9 / 315 ـ 316 مسألة 23 .
- (5) الكافي في الفقه: 387 .
- (6) السرائر : 3 / 342 ـ 343 .
- (7) إيضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
- (8) رياض المسائل: 10 / 310 .
(الصفحة 215)
مخالفة للقواعد من وجوه مختلفة ، كالحلّي(1) والعلاّمة في التحرير(2) ، وفخر الدين في الإيضاح(3) ، وبعض آخر(4) فلأجل أنّ ما ذهبوا إليه هو الحكم بالتخيير .
وهذا يدلّ على ما ذكرنا من وجهين من جهة أنّ الرواية لو لم تكن مخالفة للقاعدة لما كان وجه لطرحها ، وهي إنّما تتمّ على تقدير كون موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ومن جهة نفس الفتوى بالتخيير الكاشفة عن كون موردها خصوص هذه الصورة ، وإلاّ لقالوا بجواز قتل كليهما ولو في إحدى صورتي المسألة .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا محيص عن الحكم على طبق الرواية ولو مع العلم بعدم الشركة ، ومخالفتها للقواعد لا تقدح بعد كون اعتبار حجّية الخبر إنّما هو للاستفادة منه فيما إذا كان مخالفاً للقاعدة ، ضرورة أنّه مع الموافقة لا حاجة إلى الخبر بوجه ، فتدبّر .
وعليه فيظهر صحّة ما أفاده صاحب الجواهر من أنّه لا بأس بالخروج بمثلها عن القواعد ، بل لعلّ طرحها والعمل بما تقتضيه القواعد كالاجتهاد في مقابلة النصّ(5) .
كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لإيجاب الاحتياط كما في المتن ، لأنّه لا يبقى لوجوبه مجال مع وجود الرواية الصحيحة الصريحة ، كما عرفت .
- (1) السرائر: 3 / 342 ـ 343 .
- (2) تحرير الأحكام: 2/251، وكذا ظاهر قوله في قواعدالأحكام: 2/295 ومختلف الشيعة: 9/316 مسألة 23.
- (3) ايضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
- (4) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4 / 437 .
- (5) جواهر الكلام: 42 / 225 .