(الصفحة 214)
نعم يمكن أن يقال: بأنّ مورد المسألة وإن كانت صورة واحدة ، إلاّ أنّه لا يمنع أن تكون الرواية بنفسها ناظرة إلى كلتا الصورتين أو الصورة المقابلة لتلك الصورة .
ولكنّ الظاهر أنّ الأصحاب بأجمعهم قد فهموا من الرواية صورة العلم بعدم الشركة ، أعمّ ممّن عملوا بها وأفتوا على طبقها ، وممّن لم يعملوا بها وأفتوا على طبق القاعدة باعتقادهم .
أمّا العاملون بها ـ كما هو المشهور ـ بل في محكي الرياض: قد صرّحوا بشهرة الرواية مشعرين ببلوغها درجة الإجماع(1) ولعلّه كذلك ، فقد أفتى به الشيخ(2)وأتباعه(3) والإسكافي(4) والحلبي(5) وغيرها ، بل لم نرَ لهم مخالفاً عدا من مرّ ، وعبائرهم غير صريحة في لمخالفة عدا الحلي(6) وفخر الدين(7) . إلى آخره»(8) .
فلأنّهم تمسّكوا بها في مسألة تعارض البيّنة والإقرار التي أوردوها عقيب مسألة تعارض البينتين التي عرفت أنّ موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ولذا لم يقل أحد فيها بجواز قتل كلا المشهود عليهما . والظاهر اتّحاد مورد المسألتين كما مرّ آنفاً ، فيظهر أنّهم قد فهموا من الرواية خصوص هذه الصورة .
وأمّا غير العاملين بالرواية إمّا لأجل عدم حجّية خبر الواحد ، أو لأجل كونها
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 995 ، مسالك الأفهام: 15 / 194 .
- (2) النهاية: 743 .
- (3) المهذّب: 2 / 502 ، إصباح الشيعة: 493 ـ 494 ، غنية النزوع: 407 .
- (4) حكاه عنه في مختلف الشيعة: 9 / 315 ـ 316 مسألة 23 .
- (5) الكافي في الفقه: 387 .
- (6) السرائر : 3 / 342 ـ 343 .
- (7) إيضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
- (8) رياض المسائل: 10 / 310 .
(الصفحة 215)
مخالفة للقواعد من وجوه مختلفة ، كالحلّي(1) والعلاّمة في التحرير(2) ، وفخر الدين في الإيضاح(3) ، وبعض آخر(4) فلأجل أنّ ما ذهبوا إليه هو الحكم بالتخيير .
وهذا يدلّ على ما ذكرنا من وجهين من جهة أنّ الرواية لو لم تكن مخالفة للقاعدة لما كان وجه لطرحها ، وهي إنّما تتمّ على تقدير كون موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ومن جهة نفس الفتوى بالتخيير الكاشفة عن كون موردها خصوص هذه الصورة ، وإلاّ لقالوا بجواز قتل كليهما ولو في إحدى صورتي المسألة .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا محيص عن الحكم على طبق الرواية ولو مع العلم بعدم الشركة ، ومخالفتها للقواعد لا تقدح بعد كون اعتبار حجّية الخبر إنّما هو للاستفادة منه فيما إذا كان مخالفاً للقاعدة ، ضرورة أنّه مع الموافقة لا حاجة إلى الخبر بوجه ، فتدبّر .
وعليه فيظهر صحّة ما أفاده صاحب الجواهر من أنّه لا بأس بالخروج بمثلها عن القواعد ، بل لعلّ طرحها والعمل بما تقتضيه القواعد كالاجتهاد في مقابلة النصّ(5) .
كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لإيجاب الاحتياط كما في المتن ، لأنّه لا يبقى لوجوبه مجال مع وجود الرواية الصحيحة الصريحة ، كما عرفت .
- (1) السرائر: 3 / 342 ـ 343 .
- (2) تحرير الأحكام: 2/251، وكذا ظاهر قوله في قواعدالأحكام: 2/295 ومختلف الشيعة: 9/316 مسألة 23.
- (3) ايضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
- (4) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4 / 437 .
- (5) جواهر الكلام: 42 / 225 .
(الصفحة 216)مسألة 7 ـ لو فرض في المسألة المتقدّمة إنّ أولياء الميّت ادّعوا على أحدهما دون الآخر سقط الآخر ، فإن ادّعوا على المشهود عليه سقط إقرار المقرّ ، وإن ادّعوا على المقرّ سقطت البيّنة1..
1 ـ صرّح بذلك المحقّق في محكيّ نكت النهاية(1) ، وتبعه على ذلك أبوالعبّاس(2) والمقداد(3) والفاضل الاصبهاني(4) . والوجه فيه واضح ، ضرورة أنّه مع فرض كون الدعوى من أولياء الميّت على خصوص المقرّ لا يجوز لهم الرجوع إلى المشهود عليه والاقتصاص منه أو أخذ الدّية عنه . والرواية في المسألة المتقدّمة لا تكون شاملة لهذه الصورة ، لوضوح أنّ موردها ما إذا لم يكن للأولياء دعوى على خصوص أحدهما ، فالحكم في الرواية وإن كان مخالفاً للقاعدة ولا محيص عن الأخذ به إلاّ أنّها لا تشمل هذه الصورة قطعاً ، كما انّه لو فرض كون الدعوى على خصوص المشهود عليه لا يسوغ لهم الرجوع إلى المقرّ بعد اعتقادهم عدم جواز الاقتصاص منه ولا أخذ الدية منه ، وعليه فيظهر أنّ مورد المسألة المتقدّمة ما إذا كان الأولياء غير عالمين بالقاتل ولا مدّعين على أحد .
- (1) النهاية ونكتها: 3 / 377 .
- (2) المهذّب البارع: 5 / 207 .
- (3) التنقيح الرائع: 4 / 437 .
- (4) كشف اللثام: 2 / 460 .
(الصفحة 217)
الثالث : القسامة
والبحث فيها في مقاصد :
الأوّل: في الّلوث
والمراد به أمارة ظنّية قامت عند الحاكم على صدق المدّعي ، كالشاهد الواحد أو الشاهدين مع عدم استجماع شرائط القبول ، وكذا لو وجد متشحّطاً بدمه وعنده ذو سلاح عليه الدّم ، أو وجد كذلك في دار قوم أو في محلّة منفردة عن البلد لا يدخل فيها غير أهلها ، أو في صفّ قتال مقابل الخصم بعد المراماة . وبالجملة كلّ أمارة ظنّية عند الحاكم توجب اللّوث ، من غير فرق بين الأسباب المفيدة للظّن فيحصل اللّوث بإخبار الصبي المميِّز المعتمد عليه والفاسق الموثوق به في اخباره ، والكافر كذلك والمرأة ونحوهم1..
1 ـ قال في الجواهر في معنى القسامة : هي الأيمان تقسم على جماعة يحلفونها كما في الصحاح(1) . أو الجماعة الذين يحلفونها كما في القاموس(2) . ولا يبعد صدقها عليهما كما عن المصباح(3) . وعن غير واحد: أنّها لغة اسم للأولياء الّذين يحلفون على دعوى الدم ، وفي لسان الفقهاء اسم للأيمان ، وعلى التقديرين هي اسم أُقيم مقام المصدر ، يقال: أقسم إقساماً وقسامة ، وهي الاسم له . يقال: أكرم إكراماً وكرامة ، ولا اختصاص لها بأيمان الدماء لغة ، ولكنّ الفقهاء خصّوها بها(4) .
- (1) الصحاح: 5 / 2010 .
- (2) القاموس المحيط: 4 / 166 .
- (3) المصباح المنير: 2 / 690 .
- (4) جواهر الكلام: 42 / 226 .
(الصفحة 218)
والقسامة جارية في خصوص القتل ومثله ، ولا تجري في سائر الحقوق ، والوجه فيها كما يظهر من بعض الروايات أنّها إنّما جعلت ليحقن بها دماء المسلمين ، نظراً إلى أنّه بدونها تتحقّق الجرأة على القتل نوعاً ، لأنّه بعد عدم كون القاتل مقرّاً بالقتل نوعاً ، وعدم كون البيّنة حاضرة عند تحقّق القتل كذلك ـ لو لم تشرع القسامة مضافة إلى الإقرار والبيّنة ـ يلزم بطلان دماء المسلمين وصيرورتها هدراً ، فالغرض من تشريعها إنّما هو ذلك ، والظاهر أنّها من وضع الإسلام ، وعدم ثبوت السابقة لها قبله ، كما يظهر من بعض الروايات الآتية أيضاً .
وأمّا اللّوث فهو لغة القوّة ، أو من التلوّث وهو التلطّخ . والأوّل يناسب تفسيره بأنّه أمارة ظنّية قامت عند الحاكم على صدق المدّعى كالأمثلة المذكورة في المتن; لأنّه يوجب تقوّى دعوى المدّعي . والثاني يناسب تفسيره بالتهمة وسوء الظّن التي يوجب تلك الأمارات تحقّقها ، وتوجب تلوّث المتّهم وتلطّخه ، وكلا التفسيرين يظهر من المتن .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ أصل اعتبار القسامة لإثبات القتل ، فقد ذكر في الجواهر ـ بعد قوله: ولم نجد مخالفاً في ذلك من العامة والخاصّة إلاّ عن الكوفي منهم(1) ـ : هي من الضروريات بين علماء المسلمين(2) .
كما أنّ اعتبار اللّوث في القسامة بمعنى عدم اعتبارها بدونه ، بخلاف الإقرار والبيّنة ، حيث لا يشترط في اعتبارهما اللّوث بوجه ، ضرورة اعتبار الإقرار ولو لم يكن المقرّ متَّهماً بالقتل بوجه . كما أنّه من الواضح اعتبار البيّنة ولو لم يكن المشهود
- (1) نيل الأوطار: 7 / 38 ، حاشية ردّ المحتار: 6 / 627 ، الخلاف: 5 / 303 مسألة 1 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 227 .