(الصفحة 223)
وبعبارة أُخرى مرجع الرواية إلى أنّ التغليظ في ناحية المدّعى عليه إنّما هو لئلاّ تتحقّق الأيمان منه إذا فرض صدور القتل منه ، وهذا لا يلازم اختصاص مشروعية القسامة بخصوص مثل الرّجل ، كما لا يخفى .
ومنها: رواية ابن سنان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إنّما وضعت القسامة لعلّة الحوط يحتاط على الناس ، لكي إذا رأى الفاجر عدوّه فرّ منه مخافة القصاص(1) . وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا دلالة لها أيضاً على اعتبار اللّوث .
هذا ، ولكن لا تنبغي المناقشة في أصل اعتباره ، وإن كانت دلالة الروايات عليه بالظهور ممنوعة ، لكون المورد في كثير منها صورة وجود اللّوث ، كما في واقعة خيبر ، والمطلقات إنّما يكون إطلاقها لبيان أصل المشروعية لا في مقام بيان ثبوتها بنحو الإطلاق .
فاللاّزم الاقتصار على القدر المتيقّن ، خصوصاً بعد ملاحظة كون القسامة مخالفة للقاعدة من وجوه ، لأنّ مقتضاها ثبوت اليمين على المنكر دون المدّعي . مضافاً إلى عدم تعدّد الحلف في مورد سوى القسامة ، كما أنّه لا مجال لجواز حلف الإنسان لإثبات حقّ غيره ، وغيره من الوجوه المخالفة للقاعدة . وعليه فلابدّ في إثبات إطلاقها من وجود دليل قويّ عليه ، والظاهر أنّه غير موجود في المقام ، فلا محيص عن اعتبار اللّوث ، وقد عرفت في أوّل البحث دعوى الإجماع عليه .
ويؤيّده أنّك عرفت في بعض الروايات أنّ مشروعيّة القسامة إنّما هي للاحتياط في دماء المسلمين ، والاحتياط فيها يقضي باعتبار اللّوث فيها ، وإلاّ فربّما يدّعي الفاسق الفاجر القتل على مؤمن ، ويأتي بالأيمان لإثباتها مع عدم وجود أمارة ظنّية على صدقه في دعواه بوجه ، وعليه فلو أخذ به يلزم بطلان دم المسلم كما لايخفى ،
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 116 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 9 .
(الصفحة 224)مسألة 1 ـ لو وجد في قرية مطروقة فيها الإياب والذهاب أو محلّة منفردة كانت مطروقة فلا لوث ، إلاّ إذا كانت هناك عداوة فيثبت اللّوث1..
فمقتضى الاحتياط في الدماء اعتبار اللّوث أيضاً .
وأمّا معنى اللّوث ، فهو كما عرفت هي التّهمة الحاصلة بسبب الأمارات الظنّية عند الحاكم الحاكمة بصدق المدّعي في دعواه ، وأمّا المدّعي فاللأزم أن يدّعي بصورة الجزم ، لأنّ الجزم من شروط سماع الدعوى وقابليّتها للطرح عند الحاكم . والظاهر أنّ المراد من الظنّ هو الظنّ الشخصي الحاصل للحاكم . فاللاّزم محلاظة حصوله ، والاُمور المذكورة في المتن إنّما يوجب حصول الظنّ نوعاً ، وإذا لم يوجب في مورد فالظاهر عدم تحقّق اللّوث في ذلك المورد . وبعبارة أخرى: الملاك هو الظنّ الشخصي الحاصل من أيّ سبب ، ولا مدخلية لخصوصية سبب . والظاهر أيضاً أنّه ليس من شأن الفقه والفقيه بيان موارد اللّوث وتمييزها عن غيرها ، بعد وضوح الضابطة الكلّية وعدم ثبوت التعبّد في هذه الجهة أصلاً .
1 ـ لا خفاء في أنّه مع عدم ثبوت العداوة لا يكون هناك لوث ، لأنّ المفروض أنّ القرية أو المحلّة مطروقة ، ويجري فيها الإياب والذهاب من غير أهلها ، وهذا بخلاف ما لا يدخل فيها غير أهلها ، كما ذكره في المتن من موارد ثبوت اللوث وحصول التهمة ، كما أنّه يظهر انّه لو كانت المحلّة يدخلها غير أهلها نهاراً لا ليلاً ، فإن وجد قتيلاً فيها ليلاً يثبت اللّوث دون النهار ، وكذا العكس ، ولا يعتبر في هذه الصورة العداوة بوجه ، وإن كان محكيّاً عن جماعة(1) ، ولكن سيأتي في المسألة
- (1) منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 459 وابن فهد في المهذّب البارع: 5 / 214 والشهيد في المسالك: 15/199 .
(الصفحة 225)مسألة 2 ـ لو وجد قتيل بين القريتين فاللّوث لأقربهما إليه ، ومع التساوي فهما سواء في اللّوث ، نعم لو كان في إحداهما عداوة فاللّوث فيها وإن كانت أبعد1..
الثانية الآتية أنّ ضمان أهل القرية الذين وجد القتيل فيهم لا يرتبط بمسألة اللّوث ، فانتظر .
1 ـ قد تعرّض لهذه المسألة المحقّق في الشرائع(1) ، وجعل الملاك في اللوث وعدمه هو القرب والبعد ، من دون التعرّض لعنوان العداوة أصلاً ، وحكى في الجواهر عن صاحب الغنية الإجماع عليه(2) ، ثم استدلّ عليه بروايات متعدّدة(3) .
ولابدّ في هذه المسألة وكذا السابقة من ملاحظة الروايات الواردة في الباب ، ليظهر أنّها هل تدلّ على ارتباط مسألة ضمان أهل القرية بمسألة اللّوث أم لا؟
فنقول: منها ذيل صحيحة بريد المتقدّمة في أصل البحث ، وهو قوله(صلى الله عليه وآله): وإلاّ ـ أي وإن لم يحلف المدّعي ـ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ، وإلاّ اُغرموا الدّية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون(4) .
فإنّه يدلّ على أنّه مع نكول المدّعى عليه عن الحلف يجب عليه أداء الدية ـ أي من ماله ـ إذا كان القتيل قد وجد بين أظهرهم ، أي في قريتهم أو محلّتهم مثلاً .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 996 .
- (2) غنية النزوع: 414 ـ 415 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 233 .
- (4) تقدّمت في ص219 .
(الصفحة 226)
وظاهره أنّ وجوب أداء الدية إنّما هو لأجل كون القتيل قد وجد كذلك ، لا لأجل ثبوت اللّوث وكونهم متّهمين كما هو مقتضى ثبوت القسامة عليهم . وبعبارة أُخرى ظاهر الرواية أنّه بمجرّد النكول والإباء عن الحلف يرتفع موضوع القسامة وخصوصياتها ، ويثبت حكم آخر وهو ضمان الدية مع وجدان القتيل بين أظهرهم ، وهذا أمر لا يرتبط بالقسامة وباللّوث المعتبر فيها ، كما لايخفى .
ومنها: ذيل رواية أبي بصير المتقدّمة أيضاً ، وهو قوله (عليه السلام) : وإن لم يقسموا ـ أي المدّعون ـ فإنّ على الذين ادّعي عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً ، فإن فعلوا أدّى أهل القرية الذين وجد فيهم ، وإن كان بأرض فلاة أدّيت ديته من بيت المال ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرىء مسلم(1) .
والظاهر أنّ المراد من أهل القرية غير المدّعى عليهم ، ويدلّ عليه التصريح بفاعل «أدّى» مع أنّ مقتضى الجمع بينها وبين سابقتها ذلك كما هو ظاهر ، وعليه فلا معارضة بين هذه الرواية وبين الرواية المتقدّمة ، كما أنّه عليه يكون أهل القرية غير داخلين في مسألة القسامة واللوث ، بل الحكم بضمانهم ولزوم الدية عليهم لأجل مجرّد وجدان القتيل فيهم ، كما أنّه لو وجد بأرض فلاة تثبت ديته على بيت المال .
ومنها: صحيحة مسعدة المتقدّمة أيضاً قال: كان أبي رضي الله عنه إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه ، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، ثمّ تؤدّى الدية إلى أولياء القتيل ، ذلك إذا قتل في حيّ واحد ، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة فديته
(الصفحة 227)
تدفع إلى أوليائه من بيت المال(1) .
وظاهرها لزوم الدية على المتهمين مع حلفهم بالنحو المذكور ، وهذا ينافي ما تقدّم ، ومقتضى الجمع حمل الذيل على كون المتّهمين غير أهل الحي الواحد ، الذي وجد القتيل فيه وتحقّق القتل فيه أيضاً ، وعليه فكما ترتفع المعارضة ويتحقّق الجمع يظهر أنّ ضمان أهل ذلك الحيّ الذي تحقّق القتل فيه لا يكون مرتبطاً بالقسامة وبالدعوى والاتّهام أصلاً .
وأمّا ما أفاده بعض الأعلام(2) من الحمل على أداء الدية من بيت المال لعدم تعرّض الرواية للمؤدّي ، ففي غاية الغرابة خصوصاً مع المقابلة مع الذيل ، فتدبّر .
ومنها: رواية علي بن الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعاً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ، فإن أبوا أن يحلفوا اُغرموا الدية فيما بينهم في أموالهم سواء سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين(3) . والبحث فيها هو البحث في ذيل رواية بريد المتقدّم .
ومنها: صحيحة الحلبي وموثقة سماعة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يوجد قتيلاً في القرية أو بين قريتين؟ قال: يقاس ما بينهما فأيّهما كانت أقرب ضمنت(4) .
والجواب وإن كان متعرّضاً لحكم الفرض الثاني في السؤال إلاّ أنّه يستفاد منه حكم الفرض الأوّل وهو الضمان من دون قيد ، فيظهر أنّ الحكم بالضمان في الفرضين
- (1) تقدّمت في ص222 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 113 مسألة 115 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 115 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 5 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 112 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 8 ح 4 .