(الصفحة 249)
بخلافه فإنّه بعد القسامة(1) .
ويؤيّده التعبير بكلمة «تؤدّى» بصيغة المبني للمجهول الظاهر في كون المؤدّي غير المتّهمين ، وإلاّ لكان المناسب التعبير بصيغة الجمع وبنحو المبني للمعلوم ، كما هو ظاهر .
وقد عرفت منّا أنّ مقتضى الجمع بين الصحيحة وبين الروايات الأُخر حمل الذيل على كون المؤدّين أهل ذلك الحي الذي وجد القتيل فيه ، وهم غير المتّهمين ، وضمانهم لا يرتبط بمسألة القسامة أصلاً ، بل لأجل مجرّد وجدان القتيل في حيّهم واحتمال تحقّق القتل من كل واحد من أهله .
نعم هنا إشكال ، وهو أنّه بعد توجّه الدعوى إلى خصوص المتّهمين ، ولازمه الاعتراف بعدم صدور القتل من غيرهم ، كيف يجوز لأولياء المقتول أخذ الدية من غيرهم ، سواء كان هو بيت المال أو أهل ذلك الحيّ الذي وجد القتيل فيه .
وبعبارة أُخرى: من كان طرف الدعوى قد خلّص نفسه بالقسامة وتحقّقت البراءة له ، وغيره لا يكون طرفاً للدعوى ، فكيف يجوز الأخذ منه ، سواء كان أهل الحيّ أو بيت المال .
والجواب : أنّه وإن كان لا نصيب للمدعي من ناحية دعواه ، لفرض حلف المدّعى عليه الموجب لسقوط الدّعوى رأساً ، إلاّ أنّه لا مانع من حكم الشارع بلزوم الدّية لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم ، غاية الأمر حكمه بالتفصيل بين ما لو وجد القتيل في حيّ أو قرية أو قبيلة ، فالدية على أهلها ، وبين ما لو وجد في مثل فلاة أو عسكر أو سوق مدينة فالدية من بيت المال ، ففي الحقيقة لا منافاة بين
- (1) جواهر الكلام: 42 / 251 ـ 252 .
(الصفحة 250)
ثبوت الدية للعلّة المذكورة وبين سقوط الدعوى بالحلف رأساً ، فتدبّر .
هذا ، وربّما يقال بدلالة روايتين آخرتين أيضاً على لزوم الدية على المدّعى عليه بعد الحلف:
إحداهما: ذيل رواية أبي بصير المتقدّمة وهو قوله (عليه السلام) : فإنّ على الّذين ادّعي عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً ، فإن فعلوا أدّى أهل القرية الذين وجد فيهم ، وإن كان بأرض فلاة أديّت ديته من بيت المال . الحديث(1) .
ويجاب عنها بضعف سند الرواية فلا حجّية فيها .
ولكنّ الظاهر أنّه لا دلالة لها على ذلك أصلاً ، لأنّ الظاهر مغايرة ضمير الجمع في «فعلوا» مع «أهل القرية» وإلاّ لكان المناسب التعبير بالضمير في أدّى أيضاً ، وعليه فالفاعل للحلف هم المدّعى عليهم ، والثابت عليه الدية هم أهل القرية الذين وجد فيهم ، فالرواية لا دلالة لها بوجه . والعجب من القائل أنّه كيف غفل عمّا ذكرنا واعتقد أنّ طريق التخلّص ينحصر بتضعيف السند(2) .
وثانيتهما: رواية أبي البختري ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه (عليهما السلام) أنّه اُتي علي (عليه السلام) بقتيل وجد بالكوفة مقطّعاً ، فقال: صلوا عليه ما قدرتم عليه منه ، ثم استحلفهم قسامة بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، وضمنهم الدية(3) .
وهذه الرواية مضافاً إلى ضعف سندها بأبي البختري وهو وهب بن وهب المعروف بالكذب ، قاصرة من حيث الدلالة; لعدم ظهورها أوّلاً في وجود المدّعي في البين ، وقد عرفت أنّ مجرى القسامة وموردها ما إذا كانت في البين دعوى ،
- (1) تقدّمت في ص220 .
- (2) راجع مباني تكملة المنهاج: 2 / 113 مسألة 115 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 113 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 8 ح8 .
(الصفحة 251)
وعدم دلالتها ثانياً على عدم تحقّق الحلف من ناحية المدّعي ، وعدم ظهورها ثالثاً في تحقّق الحلف من المدّعى عليه ، لأنّ الاستحلاف أعمّ من الحلف ، فلا دلالة لها على ثبوت الدية بعد تحقّق الحلف .
الجهة الثالثة: إنّ الظاهر تمامية المخاصمة مع حلف المدّعى عليه أو نكوله ، ولا مجال لردّ الحلف على المدّعي بعد نكول المدّعى عليه ، كما حكي عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط(1) ، بل في ظاهر محكيّ عبارته دعوى الإجماع عليه . ووجهه عموم أدلّة الرّد ، وخصوصاً في المقام ، لاقتضاء الاحتياط في الدماء له . بل ظاهر عبارته أنّ التي تردّ هي القسامة بأجمعها لا خصوص يمين واحدة كما في سائر المقامات .
ولكنّ الظاهر أنّه لا وجه للرد في المقام أصلاً ، لأنّ مورد أدلّة الردّ ما إذا كان الحلف وظيفة المنكر ابتداء ، فإنّه يجوز له حينئذ النكول وردّ اليمين إلى المدّعي . وأمّا في المقام فالحلف ابتدء على المدّعي ، وانتقاله إلى المدّعى عليه إنّما هو بعد نكون المدّعي وردّه ، مع أنّه لا وجه لردّ الحلف إلى من كان عليه الحلف وامتنع منه ، فإنّه لو كان غير ممتنع من الحلف لكان يحلف أوّلاً ، والاحتياط في الدماء لا يقتضي ذلك لعدم الدليل على تأثير الحلف المردود من المدّعى عليه ، والأخذ به لعلّه ينافي الاحتياط ، كما لا يخفى .
الجهة الرابعة: انّه إذا نكل المدّعى عليه عن الحلف وامتنع منه ففي كلام المحقّق في الشرائع(2) وعن السرائر(3) والجامع(4) ـ بل قيل : إنّه الأشهر ، وعليه عامة
- (1) المبسوط : 7 / 223 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 998 .
- (3) السرائر: 3 / 340 .
- (4) الجامع للشرائع: 577 .
(الصفحة 252)
متأخّري أصحابنا(1) ـ اُلزم الدعوى ، وظاهر هذا التعبير ثبوت الدعوى بمجرّد النكول ، فإن كانت هي قتل العمد يترتّب عليه حقّ القصاص ، وإن كانت غيره تثبت الدية ، وقد صرّح بهذا الظهور العلاّمة في التحرير حيث قال: ولو امتنع المدّعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتّى يحلفوا ، بل يثبت الدعوى عليهم ويثبت القصاص إن كان القتل عمداً ، أو الدية إن كان خطأ(2) . ولكن في المتن: اُلزم بالغرامة ، وظاهره ثبوت الدّية مطلقاً ، وفي الجواهر(3) الاستدلال لما في الشرائع بروايتين ظاهرتين في ثبوت الدية بمجرّد النكول:
إحداهما:ذيل صحيحة بريد المتقدّمة ، وهو قوله (عليه السلام) : وإلاّ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ، وإلاّ اُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون(4) .
وثانيتهما: رواية عليّ بن الفضيل المتقدّمة أيضاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعاً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ، فإن أبوا أن يحلفوا اُغرموا الدية فيما بينهم في أموالهم ، سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين(5) .
أقول: أمّا الرواية الثانية فلا ترتبط بما نحن فيه من مسألة القسامة التي يكون موردها صورة وجود المدّعي والمدّعى عليه ، وثبوت الحلف على الأوّل وقومه
- (1) رياض المسائل: 10 / 326 .
- (2) تحرير الأحكام : 2 / 253 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 252 ـ 253 .
- (4) تقدّمت في ص219 .
- (5) تقدّمت في ص227 .
(الصفحة 253)
أوّلاً ، وعلى الثاني وقومه ثانياً . ومقدار الحلف هو خمسون ; لأنّ الرواية ظاهرة في حلف القوم بأجمعهم ولو كان عددهم أزيد من خمسين ، وإنّ الحلف يتوجّه إليهم ابتداء ، ولم يفرض فيها وجود المدّعي والمدّعى عليه بوجه ، غاية الأمر ثبوت الاحتمال بالإضافة إلى أفراد القوم ، وعليه فالحكم بلزوم غرامة الدية بعد الإباء عن الحلف لا يرتبط بما هو محلّ البحث في المقام أصلاً .
وأمّا الرواية الاُولى فهي وإن كانت واردة في مورد وجود المدّعي والمدّعى عليه ، إلاّ أنّ تقييد الحكم بالغرامة في صورة عدم الحلف بما إذا وجد القتيل بين أظهرهم ، يشعر بل يدلّ على أنّ المناط في لزوم الدية وثبوت الغرامة ليس الإباء عن الحلف ، بل وجدان القتيل بين أظهرهم ، مثل ما إذا وجد في محلّتهم أو قريتهم أو قبيلتهم .
وإن كان يتوجّه إشكال حينئذ على الرواية ، بأنّ المدّعى عليه الذي فرض إباؤه عن الحلف إن كان محكوماً بشيء من القصاص أو الدية ، يلزم أن يقع في مقابل قتل واحد شيئان: أحدهما على المدّعى عليه ، والآخر على الّذين وجد القتيل بين أظهرهم ،وإن لم يكن محكوماً بشيء يلزم أن يكون وجود الحلف وعدمه سيّان في المدّعى عليه .
وبعبارة أُخرى الحكم بالغرامة الظاهر في ثبوت الدية ، إن كان لأجل الامتناع عن الحلف فما وجه التقييد بوجدان القتيل بين أظهرهم؟ لأنّ الملاك حينئذ هو مجرّد النكول بما أنّه نكول من المدّعى عليه ، وإن كان لأجل القيد المذكور فظاهره حينئذ عدم ترتّب شيء على الامتناع ، وهو يستلزم المساواة بين وجود الحلف وعدمه . فالانصاف أنّ الوصول إلى مراد الذيل في غاية الإشكال . وعليه فلم يدلّ دليل ظاهر على لزوم الغرامة ، بل مقتضى القاعدة لزوم الدعوى بمجرّد