(الصفحة 282)
كما أنّ الظاهر أنّ المراد بقوله (عليه السلام) : «بثبت» في الرواية أعمّ من البيّنة فيشمل القسامة ، وعليه فالتعبير بالبيّنة في مثل المتن إنّما هو من باب المثال لا لإرادة التخصيص ، كما أنّ استثناء صورة الوثوق بعدم الفرار في المتن إنّما هو لأجل كون مناسبة الحكم والموضوع مقتضية لكون ملاك الحبس هو عدم الفرار ، فلا مجال له مع الوثوق بعدمه ، كما لا يخفى .
(الصفحة 283)
القول
في
كيفية الاستيفاء
مسألة 1 ـ قتل العمد يوجب القصاص عيناً ، ولا يوجب الدية لا عيناً ولا تخييراً ، فلو عفا الولي القود يسقط وليس له مطالبة الدية ، ولو بذل الجاني نفسه ليس للولي غيرها ، ولو عفا الولي بشرط الدية فللجاني القبول وعدمه ، ولا تثبت الدية إلاّ برضاه ، فلو رضي بها يسقط القود وتثبت الدية ، ولو عفا بشرط الدية صحّ على الأصحّ ، ولو كان بنحو التعليق فإذا قبل سقط القود ، ولو كان الشرط إعطاء الدية لم يسقط القود إلاّ بإعطائه ، ولا يجب على الجاني إعطاء الدية لخلاص نفسه ، وقيل: يجب لوجوب حفظها1..
1 ـ الاحتمالات الجارية ابتداء فيما يوجبه قتل العمد ثلاثة:
الأوّل: تعيّن الدية كأختيه وهما شبه العمد والخطأ ، ولا ريب في بطلانه ، بل الضرورة تقتضي خلافه; لاقتضائه حذف عنوان القصاص الذي قد عرفت أنّ مفهومه هو فعل المماثل ، وإيجاد مثل العمل الذي وقع لعدم ثبوت المورد له حينئذ بوجه ، مع أنّ الكتاب والسنّة حاكمان بثبوته ضرورة ، فهذا الاحتمال منفي بلاشبهة .
الثاني: ثبوت التخيير بين القصاص وبين الدية بحيث كان اختيار أحد الطرفين
(الصفحة 284)
بيد الولي ، ولا مدخل لرضا الجاني فيه أصلاً . وقد حكي القول به عن العماني(1)والإسكافي(2) ، ولكن نفى في الجواهر(3) صراحة كلام الأوّل فيه ، حيث قال: «فان عفا الأولياء لم يقتل وكانت عليه الدية لهم» . نظراً إلى احتماله لكون الوجوب لأجل التحفّظ على النفس لا لكونه طرفاً للتخيير .
الثالث: تعيين القصاص ، فعن المبسوط : أنّه الذي نصّ عليه أصحابنا واقتضته أخبارهم(4) ، وعن الخلاف عليه إجماع الفرقة وأخبارهم(5) ، وعن ابن إدريس نفي الخلاف فيه تارة ، ونسبته إلى الأصحاب أُخرى ، والإجماع عليه ثالثة(6) ، وحكي دعوى الإجماع عن غيره(7) أيضاً .
ويدلّ عليه من الكتاب مثل قوله تعالى:
{النَّفسَ بِالنَّفسِ}(8) إلى آخر الآية ، الظاهر في وقوع النفس في مقابل النفس ، وكذا الأعضاء مثل العين والأنف والأذن . وقوله تعالى:
{فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُم فَاعتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيْكُم}(9)وغيرهما من آيات القصاص الظاهرة في تعيّنه .
ومن النصوص روايات كثيرة ادّعى في الجواهر تواترها(10) ، مثل صحيحة
- (1 و 2) مختلف الشيعة: 9 / 286 ـ 287 مسألة 2 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 278 .
- (4) المبسوط : 7 / 52 .
- (5) الخلاف: 5 / 176 و 178 مسألة 40 .
- (6) السرائر: 3 / 324 و 327 و 329 و330 .
- (7) غنية النزوع: 405 .
- (8) المائدة 5 : 45 .
- (9) البقرة 2 : 194 .
- (10) جواهر الكلام: 42 / 279 .
(الصفحة 285)
عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من قتل مؤمناً متعمّداً قيد منه إلاّ أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية ، فإن رضوا بالدية وأحبّ ذلك القاتل فالدية(1) . الحديث .
وربّما يستدلّ لقول الاسكافي بروايات :
مثل : صحيحة عبدالله بن سنان وابن بكير جميعاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمّداً ـ إلى أن قال: ـ فقال: إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبه ، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية ، وأعتق نسمة ، وصام شهرين متتابعين ، وأطعم ستّين مسكيناً توبة إلى الله عزّوجلّ(2) .
وصحيحة ابن سنان الثانية ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سئل عن رجل قتل مؤمناً وهو يعلم أنّه مؤمن ، غير أنّه حمله الغضب على أنّه قتله ، هل له من توبة إن أراد ذلك أو لا توبة له؟ قال: توبته إن لم يعلم انطلق إلى أوليائه فأعلمهم أنّه قتله ، فإن عفي عنه أعطاهم الدية ، وأعتق رقبة ، وصام شهرين متتابعين ، وتصدّق على ستّين مسكيناً(3) . ولكنّ الظاهر عدم كونها رواية اُخرى غير الاُولى ، بل هي متّحدة معها كما أشرنا إليه مراراً .
ورواية أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : رجل قتل رجلاً متعمّداً ، قال: جزاؤه جهنّم . قال: قلت له : هل له توبة؟ قال: نعم يصوم شهرين متتابعين ويطعم ستّين مسكيناً ، ويعتق رقبة ، ويؤدّي ديته . قال: قلت: لا يقبلون
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 37 ، أبواب القصاص في النفس ب 19 ح3 .
- (2) وسائل الشيعة: 15 / 579 ، كتاب الإيلاء والكفّارات ، أبواب الكفّارات ب 28 ح1 .
- (3) وسائل الشيعة: 15 / 580 ، كتاب الإيلاء والكفّارات ، أبواب الكفارات ب 28 ح3 .
(الصفحة 286)
منه الدية ، قال: يتزوّج إليهم ثم يجعلها صلة يصلهم بها . قال: قلت: لا يقبلون منه ولا يزوّجونه . قال: يصرّه صرراً ثمّ يرمي بها في دارهم(1) .
والنبويّ : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إمّا أن يفدى وإمّا أن يقتل(2) .
والنبويّ الآخر: من أُصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : بين أن يقتصّ أو يعفو ، أو يأخذ العقل(3) .
لكن في النبويين إشكال ضعف السند ، والروايات الأُخر لا تنطبق على دعوى مدّعي التخيير ، لأنّ ظاهرها لزوم إعطاء الدية ولو مع عدم قبول الولي ، والعفو عنها أيضاً مع أنّ القائل بالتخيير لا يرى ذلك بوجه ، لأنّ مرجعه إلى ثبوت الدية أيضاً بعنوان حقّ الولي ، فإذا عفى عنه وأسقطه لا يجب الإعطاء ، وعليه فيحتمل أن يكون لزوم إعطاء الدية في الروايات من شؤون التوبة ، فتدبّر . ولعلّه لذا لم يذكر صاحب الجواهر هذه الروايات من أدلّة قول الإسكافي ، بل كان ذلك في كلام بعض الأعلام(4) .
ثم على تقدير الدلالة تكون موافقة الروايات الظاهرة في قول المشهور للشهرة المحقّقة مرجّحة لها وموجبة لتعيّن الأخذ بها ، فلا محيص عن اختيار القول بتعيّن القصاص .
ثمّ إنّه يترتّب على ما ذكرنا من تعيّن القصاص حكم مسألة العفو ، وفيها صور .
فإنّه تارة يعفو وليّ المقتول بنحو يصرّح بنفي المال وعدم إرادة الدية ، ولا شبهة
- (1) وسائل الشيعة: 15 / 580 ،كتاب الإيلاء والكفّارات ، أبواب الكفارات ب 28 ح4 .
- (2) سنن البيهقي : 12 / 83 ـ 84 ح16473 .
- (3) سنن البيهقي: 12 / 82 ح16469 ، والخبل: الجراح .
- (4) مباني تكملة المنهاج: 2 / 123 ـ 124 مسألة 130 .