(الصفحة 33)
منعه عنه حتّى مات ، ولا إشكال فيه في ثبوت القود ، لتحقّق موجبه الذي هو قتل العمد ، لكون العمل مؤثِّراً في القتل والموت من دون فرق بين صورة العجز وصورة المنع ، وهذا واضح .
الثاني: ما لو طرحه في النار ولكنّه كان قادراً على الخروج ، ومع ذلك لم يخرج منها عمداً وتخاذلاً ، ولا ينبغي الإشكال في عدم استناد القتل في هذا الفرض إلى الملقي ، بل هو مستند إلى البقاء الذي هو فعل اختياريّ للمطروح ، ضرورة أنّه لو لم يختر المكث والبقاء لما تحقّق الموت أصلاً ، فالموت مستند إلى نفسه لا محالة ، ولا يستند إلى عمل الملقي الذي هو مجرّد الإلقاء الذي لا يترتّب عليه الموت . ومنه يظهر أنّه كما لا مجال للقصاص في هذا الفرض ، لا يثبت دية أيضاً; لأنّ ثبوت الدية فرع الاستناد ، ولو كان بنحو الخطأ أو شبه العمد ، والمفروض انتفاء الاستناد رأساً . نعم لو ترتّب على مجرّد الإلقاء جناية تجب ديتها على الملقي ، ولكنّها لا ترتبط بالقتل الموجب للقصاص أو الدية .
ثمّ إنّ الفرق بين هذه الصورة ، وبين ما إذا كان قادراً على المعالجة والمداواة ، ولكنّه تركها اختياراً حتّى مات ـ الذي ادّعى صاحب الجواهر (قدس سره)(1) فيه الاتفاق على الضمان ـ هو أنّه مع ترك المعالجة وإن كان يتحقّق التقصير بملاحظة عدم رعاية حفظ النفس الواجب عليه لأنّ المفروض القدرة عليه ، إلاّ أنّه لا يوجب استناد الموت إلى التارك لها ، بل الموت مستند إلى مثل الجارح ، فإنّ الجرح صار سبباً لتحقق الموت ، وإن كان المجروح قادراً على إيجاد المانع بسبب المعالجة ، إلاّ أنّ استناد الموت إنّما هو إلى المقتضي والسبب دون عدم المانع . وهذا كما لو كان من يراد
- (1) جواهر الكلام: 42 / 27 .
(الصفحة 34)
قتله قادراً على الفرار ولكنّه لم يفرّ ، فقتل ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ القتل إنّما يكون مستنداً إلى القاتل لا إلى المقتول ، باعتبار القدرة على الفرار المانع عن تحقّق القتل . وهذا بخلاف المقام فإنّ الموت مستند إلى البقاء في النّار اختياراً ، ولا مجال لاستناده إلى الإلقاء .
وبعبارة أُخرى: السبب في المقام هو البقاء ، وإن كان اختياره متفرّعاً على الإلقاء ، بمعنى أنّه لولا الإلقاء لما اختار البقاء ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب الإستناد إلى الإلقاء بوجه .
الثالث: صورة الشك في أنّ عدم الخروج هل كان مستنداً إلى العجز أو ناشئاً عن التعمّد والتخاذل ، وفيه وجهان ، بل قولان . يظهر القول بثبوت القصاص من المحقّق في الشرائع ، حيث قال: «لو طرحه في النار فمات قتل به ، ولو كان قادراً على الخروج لأنّه قد يشدّه ، ولأنّ النار قد تشنج الأعصاب بالملاقاة ، فلا يتيسر الفرار»(1) .
وليس مراده من القدرة على الخروج هي القدرة عليه المساوقة للتعمّد والتخاذل ، لأنّه مضافاً إلى وضوح عدم ثبوت القصاص في مورد التعمّد لا يلائمه التعليل ، لأنّ ظاهره أنّ الدهشة الحاصلة وكذا تشنّج الأعصاب بالملاقاة ربّما يمنع عن الفرار ، فالمفروض صورة الشك ، والتعميم إنّما هو بلحاظ هذه الصورة .
ويظهر من العلاّمة في القواعد عدم ثبوت القصاص ، قال: «وإن تركه في نار فتمكّن من التخلّص منها لقلّتها أو لكونه في طرفها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج فلا قصاص ، وفي الضمان للدية إشكال ، أقربه السقوط ، إن علم أنّه ترك
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 972 .
(الصفحة 35)
الخروج تخاذلاً; ولو لم يعلم ذلك ضمنه ، وإن قدر على الخروج ، لأنّ النار قد ترغبه وتدهشه وتشنج أعضائه بالملاقاة فلا يظفر بوجه المخلّص»(1) .
فإنّ التفصيل في الدية بين صورة العلم بالتخاذل وصورة الشكّ فيه مع إطلاق الحكم بعدم ثبوت القصاص يعطي عموم الحكم بالعدم فيه ، وإن كان ظاهر صدر العبارة يشعر بالاختصاص بصورة العلم بالتخاذل ، كما لا يخفى .
وقد ذكر الشهيد في المسالك في وجه ثبوت القصاص في المقام: أن السبب المقتضي للضمان وهو الإلقاء متحقّق ، مع الشك في المسقط ، وهو القدرة على الخروج مع التهاون فيه ، ولا يسقط الحكم بثبوت أصل القدرة ما لم يعلم التخاذل عن الخروج ، لاحتمال أن يعرض له ما يوجب العجز من دهشة وتحيّر ، أو تشنّج أعضائه ونحو ذلك(2) .
ويرد عليه أنّه لم يدلّ دليل على سببيّة الإلقاء للضمان ، ومن الواضح افتقار السببية إلى جعل الشارع وقيام الدليل . وقد حقّقنا في الأصول أنّ الأحكام الوضعيّة بأجمعها مجعولة للشارع ، غاية الأمر أنّ تعلّق الجعل ببعضها ربّما يكون بجعل منشأ انتزاعه ، وإن كان يمكن فيه الجعل مستقلاًّ أيضاً .
وبالجملة: اقتضاء الإلقاء بمجرّده للضمان وسببيّته له لم يدلّ عليه دليل بوجه ، فلا مجال لما في المسالك .
مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ مراده من المسقط هو المانع ، وعليه لا يحكم بترتّب المقتضى ـ بالفتح ـ مع إحراز المقتضي ـ بالكسر ـ والشكّ في وجود المانع .
- (1) قواعد الأحكام: 2 / 279 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 73 .
(الصفحة 36)
ويظهر من كاشف اللّثام في وجه ترديد القواعد في الحكم بالدية ما يجري في القصاص أيضاً . قال: «ومبنى الوجهين على تعارض ظاهرين وأصلين ، فإنّ الظاهر من حال الإنسان أنّه لا يتخاذل عن الخروج حتى يحترق ، وظاهر النار المفروضة سهولة الخروج عنها ، وأنّه لا يحترق بها إلاّ من تعمّد اللّبث فيها ، والأصل براءة الذمّة ، والأصل عدم الشركة في الجناية(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى المناقشة في مثل أصالة عدم الشّركة في الجناية ، فإنّ الشركة فيها ليست لها حالة سابقة وجودية أو عدميّة، مع أنّ هذا الأصل لا يثبت استقلال المُلقى، إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي هو على خلاف التحقيق ، وأنّ الشك ليس في الشركة وعدمها ، بل في استقلال المُلقى في الجناية واستقلال المطروح في النار فيها ، فالترديد إنّما هو في استقلال المُلقى أو المطروح ـ أنّ ما هو العمدة في الحكم بعدم القصاص هو عدم إحراز موضوع الحكم بالقصاص ، وهو قتل العمد ، فإنّه مع احتمال كون الموت ناشئاً عن البقاء الإختياري في النار ـ ومعه لا يستند الموت إلى المُلقى بوجه ـ يشك في استناد القتل إليه وصدوره منه ، ومع الشك في صدور القتل منه وعدمه لم يحرز عنوان قتل العمد الّذي يعتبر فيه أوّلاً إضافة القتل إلى من يراد قصاصه ، ومع الشكّ في ذلك وعدم إحرازه لا يبقى مجال لترتيب الحكم بالقصاص.
فالعمدة في مبنى المسألة ما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع والشك في تحقّقه ، ومنه يظهر أنّه كما لا وجه للقصاص في هذه الصورة التي هي فرض الشك ، لا وجه لثبوت الدية أيضاً ، لأنّ موضوعها هو القتل المضاف إلى من يراد أخذ الدية منه أو
- (1) كشف اللثام: 2 / 441 .
(الصفحة 37)مسألة 11 ـ لو ألقاه في البحر ونحوه فعجز عن الخروج حتّى مات ، أو منعه عنه حتى مات قتل به ، ومع عدم خروجه عمداً وتخاذلاً أو الشكّ في ذلك فحكمه كالمسألة السابقة ، ولو اعتقد أنّه قادر على الخروج لكونه من أهل فنّ السباحة فألقاه ثمّ تبيّن الخلاف ولم يقدر الملقي على نجاته لم يكن عمداً1.
مسألة 12 ـ لو فصده ومنعه عن شدّه فنزف الدّم ومات فعليه القود ، ولو فصده وتركه فإن كان قادراً على الشدّ فتركه تعمّداً وتخاذلاً حتى مات فلا قود ولا دية النفس ، وعليه دية الفصد ، ولو لم يكن قادراً فإن علم الجاني ذلك فعليه القود ، ولو لم يعلم فإن فصده بقصد القتل ولو رجاءً فمات فعليه القود ظاهراً ، وإن لم يقصده بل فصده برجاء شدّه فليس عليه القود ، وعليه دية شبه العمد2..
من عاقلته ، مع أنّ إضافته إليه مشكوكة كما هو المفروض . فالتحقيق يقتضي الحكم بعدم ثبوت الدية أيضاً ، كما في المتن .
1 ـ هذه المسألة مشتركة مع المسألة السابقة في الفروض الثّلاثة ، التي عرفت ثبوت القصاص في الفرض الأوّل وعدم ثبوت القصاص ولا الدية في الفرضين الآخرين ، وتشتمل على فرض رابع وهو: صورة اعتقاد المُلقي قدرة المُلقى على الخروج ، لكونه من أهل فنّ السباحة ، ثم تبيّن الخلاف بعد الإلقاء ، ولم يقدر المُلقي حينئذ على نجاته . والظاهر عدم كونه عمداً ، لأنّ المفروض عدم قصد القتل وعدم كون العمل مؤثراً في القتل بحسب اعتقاد المُلقي . وقد مرّ اعتبار العلم بذلك في تحقّق عنوان العمد ، فلا مجال للقصاص ، بل عليه الدية لكونه شبه العمد .
2 ـ أمّا ثبوت القود في الفرض الأوّل ، فلثبوت قتل العمد المتحقّق بمجموع