(الصفحة 331)
الحكم بعدم جواز الهبة متفرعاً على كون أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل ، ومن الواضح اقتضاؤه لعدم جواز الاقتصاص من دون ضمان أيضاً ، لأنّه لا فرق بين الهبة والاقتصاص من هذه الجهة ، فمقتضى الرواية حينئذ عدم جواز الاقتصاص المزبور ، وعليه فيتّحد النقلان في الدلالة على هذا الأمر ، غاية الأمر أن دلالة الأوّل إنّما هي بالصراحة ، ودلالة الثاني بإلغاء الخصوصية وثبوت المناط .
نعم تعارضهما رواية علي بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك رجل قتل رجلاً متعمّداً أو خطأ وعليه دين وليس له مال ، وأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته ، فقلت: إن هم أرادوا قتله؟ قال: إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدِّين من سهم الغارمين ، قلت: فإنّه قتل عمداً وصالح أولياؤه قاتله على الدية ، فعلى من الدين ، على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال: بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنّه أحقّ بديته من غيره(1) .
ولكن حيث أنّ الأولتين صحيحتان ، وهذه الرواية ضعيفة فلا مجال لنهوضها في مقابلهما ، بل اللاّزم الأخذ بهما والحكم بعدم جواز الاقتصاص إلاّ بعد الضمان بمقدار الدية ، هذا كلّه في الاقتصاص .
وأمّا الهبة مجّاناً فالمحكي عن المبسوط أنّه قال: إنّ الذي رواه أصحابنا إنّه لم يكن لوليّه العفو على غيرمال ولا القود ، إلاّ أن يضمن حقّ الغرماء(2) . وعن أبي علي أنّه قال: لا يجوز للأولياء العفو إلاّ إذا ضمنوا الدية(3) .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 92 ، أبواب القصاص في النفس ب 59 ح2 .
- (2) المبسوط : 7 / 56 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 455 مسألة 135 .
(الصفحة 332)
لكن الشيخ (قدس سره) قال في محكي النهاية: لم يكن لأوليائه القود إلاّ بعد أن يضمنوا الدية عن صاحبهم ، فإن لم يفعلوا لم يكن لهم القود وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم(1) .
فإن ظاهره جواز العفو في مقابل القصاص ، لكن التقييد بقوله : «بمقدار ما يصيبهم» ـ مع أنّ العفو مطلقاً إنّما يمضى في خصوص مقدار العافي ولا يتعدّى عنه ـ ربّما يكون قرينة على أن المراد بالعفو هنا هو العفو بمقدار ما يصيبهم من الزائد على مقدار الدِّين ، وعليه فلا دلالة للعبارة على جواز العفو في مقابل الاقتصاص ، كما لايخفى .
وأمّا الروايات ، فمقتضى خبر أبي بصير على النقل الثاني وخبر علي بن أبي حمزة المتقدّمين عدم جواز هبة الدم للقاتل قبل ضمان الدية للغرماء ، لكن خبر أبي بصير على النقل الأوّل ظاهره الجواز ، بناء على كون الفاعل في قوله (عليه السلام) : «فإن وهبوا» هو الأولياء كما هو الظاهر بل المتعيّن بناء على نقل الجواهر ، حيث نقل هكذا: فإن وهب أولياؤه دمه للقاتل فجائز(2) . وأمّا بناء على ما نقلنا من قوله: فإن وهبوا أولياؤه دية القاتل فيمكن أن يقال: بأنّ معناه أنّه إن وهب أصحاب الدّين أولياء المقتول دية القاتل فجائز حينئذ هبة الأولياء للدم . لكن من الظاهر كون هذا الاحتمال خلاف الظاهر جدّاً ، وعليه فظاهر الرواية هو جواز الهبة في مقابل الاقتصاص .
ولكن الظاهر ثبوت قرائن شاهدة على عدم الجواز ، وهو أنّه لا فرق بين الهبة
- (1) النهاية: 309 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 314 .
(الصفحة 333)مسألة 21 ـ لو قتل واحد رجلين أو أكثر عمداً على التعاقب أو معاً قتل بهم ولا سبيل لهم على ماله ، فلو عفا أولياء بعض لا على مال كان للباقين القصاص من دون ردّ شيء ، وإن تراضى الأولياء مع الجاني بالدية فلكلّ منهم دية كاملة ، فهل لكلّ واحد منهم الاستبداد بقتله من غير رضا الباقين أو لا ، أو يجوز مع كون قتل الجميع معاً ، وأمّا مع التعاقب فيقدّم حقّ السابق فالسابق ، فلو قتل عشرة متعاقباً يقدّم حقّ ولي الأوّل ، فجاز له الاستبداد بقتله بلا إذن منهم ، فلو عفا فالحقّ للمتأخّر منه وهكذا؟ وجوه ، لعلّ أوجهها عدم جواز الاستبداد ولزوم الإذن من الجميع ، لكن لو قتله ليس عليه إلاّ الإثم ، وللحاكم تعزيره ولا شيء عليه ولا على الجاني في ماله ، ولو اختلفوا في الاستيفاء ولم يمكن الاجتماع فيه فالمرجع القرعة ، فإن استوفى أحدهم بالقرعة أو بلا قرعة سقط حقّ الباقين1..
والاقتصاص على تقدير القول بعدم الجواز فيه بل أولويتها منه ، كما لا يخفى . وكون الخبر على النقل الآخر صريحاً في عدم الجواز ، وكون التفريع على أنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل مناسباً للعدم لا للجواز ، خصوصاً مع اشتراك النقلين في هذا التمهيد ، فمقتضى الاحتياط الوجوبي لو لم يكن أقوى هو العدم ، كما في المتن .
1 ـ في هذه المسألة جهات من الكلام:
الأُولى: أنّه لا خلاف ولا إشكال في ثبوت حقّ القصاص لكلّ من أولياء المقتول المتعدّد ، بنحو لو اجتمعوا على المطالبة فقتلوه مباشرة أو استنابة فقد استوفى كلّ منهم حقّه من دون زيادة ولا نقصان ، ولا مجال لاحتمال ثبوت الدية على حسب تعدّد القتل مع القصاص مع كسر واحدة ، إذ ليس لهم عليه إلاّ نفسه ، والجاني لا يجني على أكثر منها ، خلافاً لبعض أهل الخلاف حيث قال: يقتل بجماعتهم ، فإذا
(الصفحة 334)
قتل سقط من الديات واحدة ، وكان ما بقي من الديات في تركته(1) .
الثانية: لا إشكال في أنّ عفو أولياء بعض موجب لسقوط حقّه من القصاص ، وأمّا حقّ غيره فهو باق على حاله ، ولا مجال لدعوى السقوط فيه أصلاً . وعليه فلو استوفى غير العافي القصاص فقد استوفى تمام حقّه ، ولا يجب عليه ردّ شيء إلى القاتل أو ورثته ، بخلاف ما تقدّم في صورة تعدّد أولياء المقتول الواحد إذا عفى بعضهم واختار غيره الاستيفاء ، حيث يجب عليه ردّ ما زاد عن نصيبه إلى القاتل أو ورثته على ما عرفت ، والفرق واضح .
ويدلّ في خصوص المقام صحيحة عبدالرحمن ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قتل رجلين عمداً ولهما أولياء ، فعفا أولياء أحدهما وأبى الآخرون؟ قال: فقال: يقتل الذي لم يعف ، وإن أحبّوا أن يأخذوا الدية أخذوا . الحديث(2) .
الثالثة: لو تراضى الأولياء مع القاتل بما هو بدل جنايته من الدية ، فالظاهر تعدّد الدية بتعدّد الجناية لا تقسيم دية واحدة عليهم ، والوجه فيه استحقاق كلّ واحد منهم نفساً أو ما هو بدلها من الدية الكاملة ، وليس مثل تعدّد الأولياء مع وحدة الجناية ، حيث إنّ تراضيهم على الدية يوجب ثبوت دية واحدة . نعم قد عرفت أنّه يمكن وقوع التراضي في الجناية الواحدة على أضعاف الدية ، ولا يرتبط بما يقع بدلاً عن النفس ، كما لا يخفى .
الرابعة: فيما لو أراد الجميع القصاص ، وقد ذكر في المتن احتمالات ثلاثة في جواز استبداد كلّ واحد منهم من دون الاستئذان من الباقي ، وعدم جوازه في
- (1) الخلاف : 5 / 183 مسألة 47 ، المجموع للنووي: 20 / 86 ـ 87 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 84 ، أبواب القصاص في النفس ب 52 ح3 .
(الصفحة 335)
هذه الصورة .
منشأ الأوّل : ثبوت حقّ القصاص بالإضافة إلى كلّ واحد منهم مستقلاًّ ، لكون جنايته بالنسبة إليه هي الجناية على النفس ، ولا وجه للزوم المراجعة إلى الغير والاستئذان منه .
ومنشأ الثاني: إنّ الحقّ وإن كان ثابتاً لكلّ واحد كذلك ، إلاّ أنّ كون متعلّق الحقّ واحداً يقتضي عدم ترجيح واحد على الآخر ، بل توقّف الاستيفاء على الاستئذان ، وجعله في المتن أوجه الاحتمالات .
ومنشأ التفصيل: أنّه في القتل المتعاقب يكون ثبوت حقّ القصاص لوليّ الأوّل قبل ثبوته للثاني ، وثبوته للثاني قبل ثبوته للثالث ، وهكذا ، بخلاف القتل المعي والمقارن ، فانّه لا تقدّم لواحد على الآخر أصلاً .
ولكنّه يرد عليه أنّ القبلية الزمانية لا توجب ثبوت حقّ التقدّم كما في الغرماء المتعدّد بالإضافة إلى المديون الواحد ، وعليه فلا فرق بين الفرضين أصلاً .
ثمَّ إنّه على تقدير عدم جواز الاستبداد لو بادر فهل يترتّب على عمله مجرّد الإثم والتعزير، أو يكون موجباًلثبوت الدية عليه أوعلى الجاني؟الظاهرأنّه لامجال لاحتمال ثبوت الدية عليه أصلاً ، بعد كون استيفائه بمقدار حقّه من دون زيادة ولا نقصان ، بخلاف الأولياء المتعدّدين في الجناية الواحدة إذا استبدّ أحدهم وبادر إلى القصاص.
وأمّا ثبوت الدية في مال الجاني ، فالظاهر وقوع الاختلاف فيه ، فالمشهور ـ بل المحكي عن المبسوط(1) والخلاف(2) الإجماع عليه ـ هو سقوط حق الباقين لا إلى
- (1) المبسوط : 7 / 61 .
- (2) الخلاف : 5 / 182 ـ 183 مسألة 47 .