(الصفحة 349)
سُلطَاناً}(1) ، نظراً إلى أنّ الحكم بسقوط الدية أيضاً مستلزم لسلب سلطانه مطلقاً ، وبما ورد في الروايات المتقدّمة من قولهم (عليهم السلام) : «لا يبطل دم امرىء مسلم»(2) ، وبأنّه كمن قطع يد رجل ولا يد له ، فانّ عليه الدية فكذا النفس .
ويرد على الأوّل ظهور كون المراد من السلطان في الآية هو السلطان على القتل ، ويدلّ عليه تفريع قوله تعالى:
{فَلاَ يُسْرِف فِي القَتلِ} ، وعليه فهذه الآية إنّما تكون كسائر آيات القصاص ، ولا تعرّض فيها لمسألة الدية بوجه .
وعلى الثاني ـ مضافاً إلى منع اقتضائه لثبوت الدّية في مال الجاني ، بل يمكن أن تكون ثابتة في بيت المال ، ويؤيّده وقوعه تعليلاً في كثير من الروايات للحكم بالثبوت في بيت المال ، وعليه فلا ينطبق الدليل على المدّعى ـ أنّه لا يعلم شموله للمقام الذي كان الجاني باذلاً نفسه للقصاص ، وقد تمهّدت مقدّماته ، لكن الموت العارض للقاتل منع عن تحقّقه ، فتدبّر .
وعلى الثالث أنّه قياس ، مضافاً إلى كونه مع الفارق ، لوجود الجاني في المقيس عليه وكون أداء الدية من ماله ، وهذا بخلاف المقام الذي يكون الأداء من مال الوارث ، فافهم .
وأمّا من الجهة الثانية ، فقد روى الكليني عن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً متعمّداً ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه ، قال: إن كان له مال أُخذت الدية من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب ، فإن لم
- (1) الإسراء 17: 33 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 52 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 29 ح1 وب 46 ح2 وص104 أبواب دعوى القتل ب 2 ح1 وص109 ب 6 ح1 وص111 ب 8 ح 3 ، وغيرها من الروايات .
(الصفحة 350)
يكن له قرابة أدّاه الإمام ، فإنّه لا يبطل دم امرىء مسلم . ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ظريف بن ناصح ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله إلى قوله: الأقرب فالأقرب(1) .
وروى ابن أبي نصر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قتل رجلاً عمداً ثم فرّ فلم يقدر عليه حتّى مات ، قال: إن كان له مال أُخذ منه ، وإلاّ أخذ من الأقرب فالأقرب(2) . وحيث إنّ ابن أبي نصر البزنطي لا يمكن له النقل عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) من دون واسطة فلابدّ إمّا أن يلتزم بكون الرواية مرسلة ، وإمّا أن يقال بأنّ المراد هو أبو جعفر الجواد (عليه السلام) .
والبحث في الروايات يقع من جهات:
الأولى: أنّه لا محيص عن الأخذ بمقتضى هذه الروايات في الجملة ، وإن كان مخالفاً للقاعدة على ما عرفت ، وذلك لاعتبار بعضها في نفسه ، وانجبار البعض الآخر بفتوى المشهور واستناد جلّ الأصحاب إليها . فقد حكي عن غاية المراد(3)والمسالك(4) والتنقيح(5) نسبة مفادها إلى الأصحاب تارة ، وإلى أكثرهم أُخرى ، بل عن الغنية الإجماع عليه(6) ، وإن كان إسناد المحقّق في الشرائع(7) ذلك إلى الرواية يشعر بتردّده فيه ، ولكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الأخذ به والفتوى على طبقه ، كما
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 302 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 4 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 303 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 4 ح3 .
- (3) غاية المراد : 361 (مخطوط) .
- (4) مسالك الأفهام: 15 / 261 ـ 262 .
- (5) التنقيح الرائع: 4 / 447 .
- (6) غنية النزوع: 405 .
- (7) شرائع الإسلام: 4 / 1005 .
(الصفحة 351)
لا يخفى .
فلا وجه لما عن السرائر من أنّ موجب القتل العمد ، القود دون الدّية ، فإذا فات محلّه وهو الرقبة فقد سقط لا إلى بدل ، وانتقاله إلى مال الذي للميّت أو إلى مال أوليائه حكم شرعي يحتاج مثبته إلى دليل شرعي ولن يجده أبداً ، وهذه أخبار آحاد وشواذ أوردها شيخنا في نهايته إيراداً لا اعتقاداً ; لأنّه رجع عن هذا القول في مسائل خلافه وأفتى بخلافه ، وهو الحقّ اليقين(1) .
وذلك لاعتبار بعض هذه الروايات بنفسها وبعضها بالانجبار ، وقد ثبت في محلّه عدم اختصاص الحجّية بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة ، فلا مجال لمثله .
الثانية: الظاهر أنّ مورد رواية أبي بصير كما عرفت هو مجرّد الهرب بنحو لا يقدر عليه ، ولم يقع فيه التقييد بالموت ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ظهوره فيه لعدم التعرّض للموت ـ ما ذكره في الوسائل بعد نقل الرواية بالنحو المذكور من قوله: قال الكليني: وفي رواية أُخرى: ثم للوالي بعد حبسه وأدبه(2) ، فإنّ ظاهره فرض حياة القاتل وأدبه وحبسه بعد الرّجوع عن الفرار وأخذ الدية من ماله أو مال أقربائه ، وعليه فتصير رواية أبي بصير قرينة على أنّ فرض الموت في رواية ابن أبي نصر لا دخالة له في الحكم المذكور فيها ، بل الموضوع للحكم هو مجرّد الفرار بنحو لا يقدر عليه ، لأنّ الجمع بين الروايتين ينحصر بهذا الطريق ، وحينئذ يقع الإشكال في أمرين:
أحدهما: أنّ المحقّق في الشرائع نقل رواية أبي بصير بنحو يشتمل على ذكر
- (1) السرائر: 3 / 330 .
- (2) الكافي : 7 / 365 ذيل ح3 .
(الصفحة 352)
الموت ، حيث قال: وفي رواية أبي بصير: إذا هرب فلم يقدر عليه حتّى مات أُخذت من ماله ، وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب(1) . مع أنّك عرفت خلوّها عنه في جميع أنحاء طرق نقلها .
ثانيهما: أنّ ظاهر الأصحاب حيث قيّدوا الموضوع بالموت مدخليّته في الحكم ، بحيث لو كان الهرب بالنحو المذكور خالياً عن الموت لا تثبت الدية بوجه ، فإن كان مستندهم فهمهم من رواية أبي بصير ذلك فيرد عليه عدم دلالتها عليه أصلاً ، وإن كان اقتضاء الجمع بين الروايتين فقد عرفت أنّ مقتضى الجمع الحكم بعدم مدخلية الموت المذكور في الرواية الثانية ، خصوصاً بعد عدم إمكان إضافة الموت إلى الأُولى ، لما عرفت من الوسائل . وعلى ما ذكرنا فلا محيص بعد لزوم الأخذ بالروايتين عن الحكم بثبوت الدية بمجرّد الهرب بنحو لا يقدر عليه ، ويساعده الاعتبار أيضاً ، فإنّ الحكم بلزوم الانتظار إلى سنين بل عشرات السنين أحياناً لا يناسب أصل جعل الحكم ، كما لا يخفى .
الثالثة: لو قلنا بأنّ مورد الروايتين مقيّد بما إذا وقع الموت ، كما هو ظاهر المتن تبعاً للمشهور ، فهل يكون الحكم بثبوت الدية منحصراً بموردهما ، أو يتعدّى عنه إلى جميع موارد تعذّر القصاص وتحقّق الموت بعده؟ كما إذا امتنع من استيفاء القصاص عنه مثلاً .
الظاهر هو الأوّل ، لأنّ الحكم في الروايتين على خلاف القاعدة ، لأنّ مقتضاها على ما عرفت عدم ثبوت الدية بوجه ، والاستدلال في ذيل رواية أبي بصير بقوله (عليه السلام) : «فإنّه لا يبطل دم امرىء مسلم» إنّما هو على الثبوت في بيت المال بعد
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 1005 .
(الصفحة 353)مسألة 26 ـ لو ضرب الوليّ القاتل وتركه ظنّاً منه أنّه مات فبرأ ، فالأشبه أن يعتبر الضرب ، فإن كان ضربه ممّا يسوغ له القتل والقصاص به لم يقتصّ من الوليّ ، بل جاز له قتله قصاصاً ، وإن كان ضربه ممّا لا يسوغ القصاص به كأن ضربه بالحجر ونحوه كان للجاني الاقتصاص ، ثم للوليّ أن يقتله قصاصاً أو يتتاركان1..
الفراغ عن أصل الثبوت ، لا على أصل الثبوت . ومن الواضح لزوم الاقتصار في الحكم المخالف للقاعدة على خصوص مورده ، فلا مجال للتعدّي ، كما أفاده في المتن .
1 ـ الظاهر أنّ التفصيل المذكور في المتن بقرينة عدم الإشارة إلى وجود نصّ معتبر في المسألة وبقرينة التعبير بالأشبه إنّما هو بلحاظ القاعدة ، ويؤيّده أنّ المحقّق في الشرائع(1) بعد ذكر مفاد الرواية والحكم بضعفها وإرسالها جعل الأقرب هذا التفصيل ، وعليه فالكلام في المسألة يقع في مقامين:
الأوّل:فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الرواية الواردة ، ونقول: ظاهر المتن تبعاً للشرائع هو أنّ مقتضاها التفصيل ، نظراً إلى أنّه إن كان ضربه بما كان له الاقتصاص به ، بأن اقتصّ منه بالسيف بضربه بالعنق ، فظنّ أنّه أبانه بضربة ، على ما تقدّم في بعض المسائل السابقة(2) في كيفية الاستيفاء من عدم جواز الاقتصاص بأيّة كيفية شائها المقتصّ حتّى ولو كانت مماثلة لكيفية الجناية ، بل الظاهر لزوم وقوعه بالنحو المتعارف الذي كان هو القطع أي قطع العنق بالسيف في تلك الأزمنة وأمر آخر يتحقّق بالوسائل الجديدة في هذه الأزمنة .
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 1006 .
- (2) تقدّم في ص310 ـ 311 ، الجهة الثالثة .