(الصفحة 40)
مثل: رواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل وقع على رجل فقتله؟ فقال: ليس عليه شيء(1) . والظاهر أنّ المراد هو الوقوع من غير اختيار .
ورواية محمد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال في الرجل يسقط على الرجل فيقتله ، فقال: لا شيء عليه . وقال: من قتله القصاص فلا دية له(2) .
ورواية أُخرى لعبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل وقع على رجل من فوق البيت فمات أحدهما؟ قال: ليس على الأعلى شيء ولا على الأسفل شيء(3) . والظاهر اتّحادها مع الرواية الأُولى ، وإن كان بينهما اختلاف .
ورواية ابن بكير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، في الرجل يقع على رجل فيقتله فمات الأعلى ، قال: لا شيء على الأسفل(4) . والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «فيقتله» هو إرادة قتله ، وإن كان يبعّده أنّ مجرّد إرادة القتل مع عدم تحقّقه لا يترتّب عليه أثر من هذه الجهة .
الثالث: الذي لم يقع التعرّض له في المتن ، ما لو دفعه الغير و وقع على آخر وتحقّق موته أو موت الآخر أو كليهما ، والظاهر عدم ثبوت شيء من القصاص أو الدية على الواقع المدفوع ، وكذا على الآخر الذي وقع عليه ، لعدم تحقّق فعل منهما بوجه أصلاً ، لأنّ الدفع الموجب للوقوع إنّما هو عمل الدافع ، ولا ارتباط له بالآخرين أصلاً ، فلا مجال لثبوت شيء عليهما .
وأمّا الدافع ، فلابدّ في ثبوت القصاص عليه من ملاحظة تحقّق واحد من
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 40 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 2 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 3 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 4 .
(الصفحة 41)
الأمرين المتقدّمين في ضابط الموجب للقصاص ، وأنّه هل يكون قاصداً لقتل المدفوع أو الآخر أو كليهما أو غير قاصد للقتل أصلاً ، وأنّ عمله هل يكون مؤثِّراً غالباً في قتل المدفوع أو الآخر أو كلاهما أو لا يكون ، فإذا كان في مورد تحقّق واحد من الأمرين يتحقّق الضمان ، أي القصاص . وربّما يتحقّق في أحدهما أحد الأمرين ، وفي الآخر الأمر الآخر ، ومع انتفاء كلا الأمرين في كلا الرجلين تثبت الدية .
غاية الأمر أنّ ثبوتها بالإضافة إلى الرجل الذي وقع عليه المدفوع إنّما هو من قبيل دية شبه العمد مع الالتفات إلى الوقوع عليه ، ومن قبيل دية الخطأ مع عدم الالتفات ، كما لا يخفى . هذا ما تقتضيه القاعدة ، وهنا روايات ربما يظهر من بعضها خلاف ذلك .
مثل: ما رواه المشايخ الثلاثة عن عبدالله بن سنان أو عنه وابن رئاب جميعاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل دفع رجلاً على رجل فقتله ، قال: الدية على الذي دفع على الرجل فقتله لأولياء المقتول . قال: ويرجع المدفوع بالدية على الذي دفعه . قال: وإن أصاب المدفوع شيء فهو على الدافع أيضاً(1) .
ومورد الحكم هو ما إذا علم أنّ الرجل دفع رجلاً على رجل آخر فقتله ، غاية الأمر أنّ الجواب الدالّ على ضمان الدية قرينة على عدم كون المراد من «قتله» هو إرادة قتله لثبوت القصاص في هذه الصورة ، كما أنّه يحمل على عدم كون الدفع مؤثِّراً في القتل غالباً لما ذكرنا ، فالمراد صورة تحقّق القتل من دون إرادة ومن دون كون الدفع مؤثِّراً فيه كذلك .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب21 ح 1 .
(الصفحة 42)
وعليه فلا مجال لما عن كشف اللّثام(1) من الحمل على أنّه لم يعلم إلاّ وقوعه ولم يعلم تعمّده ولا دفع غيره له ، وذلك لمخالفته لما هو صريح الرواية لدلالتها كذلك على عدم كون المفروض صورة الشك بوجه ، مع انّه على هذا التقدير لا وجه لثبوت الدية أيضاً ، لأنّه بعد احتمال كون الوقوع غير مستند إلى التعمّد ولا إلى دفع الغير لم يحرزموجب ضمان الدية ، فلا محيص عن حمل الرواية على ما هو ظاهرها ممّا ذكرنا .
نعم يبقى على الرواية حينئذ أنّه لا وجه لثبوت الدية على المدفوع أوّلاً ، لعدم استناد الدفع إليه بوجه ، خصوصاً مع ملاحظة ما ذكروه في كتاب الغصب: من أنّ الضمان من أوّل وهلة على المُكْرِه دون المُكْرَه بالفتح ، وإن كان قد أتلف هو المال ولكن بالاكراه ، فإذا لم يكن المُكْرَه بالفتح ضامناً مع استناد العمل إليه ففي المقام لا يكون المدفوع ضامناً بطريق أولى ، لعدم وقوع عمل منه في الخارج ، وعليه فلابدّ من حمل الرواية على التعبّد المخالف للقواعد .
ورواية الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل ينفر برجل فيعقره وتعقر دابته رجلاً آخر؟ قال: هو ضامن لما كان من شيء(2) .
ورواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل كان راكباً على دابّة فغشى رجلاً ماشياً حتّى كاد أن يوطئه ، فزجر الماشي الدابّة عنه فخرّ عنها ، فأصابه موت أو جرح؟ قال: ليس الذي زجر بضامن ، إنّما زجر عن نفسه(3) . وفي التعليل كلام يأتي .
- (1) كشف اللثام: 2 / 441 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 42 ، أبواب القصاص في النفس ب 21 ح 2 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 42 ، أبواب القصاص في النفس ب 21 ، ح 3 .
(الصفحة 43)مسألة 14 ـ لو سحره فقتل وعلم سببية سحره له فهو عمد إن أراد بذلك قتله ، وإلاّ فليس بعمد بل شبهه ، من غير فرق بين القول بأنّ للسحر واقعيّة أو لا ، ولو كان مثل هذا السحر قاتلاً نوعاً يكون عمداً ولو لم يقصد القتل به1..
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في أنّه هل يكون للسحر واقعيّة وحقيقة موضوعية أم لا؟ فيه خلاف ، فالمحكيّ عن الشيخ الطوسي (قدس سره)(1) أنّه لا حقيقة للسحر لقوله تعالى:
{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِن أَحَد إِلاَّ بِإذنِ اللهِ}(2) . وقوله تعالى:
{يُخَيَّل إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّهَا تَسعى}(3) . وقوله تعالى:
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَاسِ}(4) . بل عن تبيانه: «كلّ شيء خرج عن العادة الجارية لا يجوز أن يتأتّى من الساحر ، ومن جوّز للساحر شيئاً من هذا فقد كفر ، لأنّه لا يمكنه مع ذلك العلم بصحّة المعجزات الدالّة على النبوّة ، لأنّه أجاز مثله من جهة الحيلة والسحر»(5) .
ولكنّه ذكر المحقّق في الشرائع (6): إنّ في الأخبار ما يدلّ على أنّ له حقيقة .
وذكر في الجواهر: بل فيها ما يدلّ على وقوعه في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) حتّى قيل: إنّه سحر بحيث يخيّل إليه كأنّه فعل الشيء ولم يفعله ، وفيه نزلت المعوّذتان(7) .
والحقّ أنّه لا مجال لإنكار ثبوت الحقيقة للسحر في الجملة ، بمعنى تأثير بعض
- (1) المبسوط: 7 / 260 ، الخلاف : 5 / 327 ـ 328 مسألة 14 .
- (2) البقرة 2 : 102 .
- (3) طه 20 : 66 .
- (4) الأعراف 7 : 116 .
- (5) التبيان: 1 / 374 ، بحار الأنوار: 63 / 3 .
- (6) شرائع الإسلام : 4 / 973 .
- (7) جواهر الكلام: 42 / 32 ـ 33 .
(الصفحة 44)
أقسامه واقعاً ، وقوله تعالى:
{وَمَا هُم بِضَارّينَ} لا ينافيه ، لأنّه يجوز نفي الإضرار من كلّ مضرّ مع استثناء إذن الله ، فيقال : السمّ ليس بضارّ إلاّ بإذن الله ، فلا دلالة له على عدم تأثيره حقيقة ، خصوصاً مع وقوعه عقيب قوله تعالى:
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرءِ وَزَوجِهِ}(1) الظاهر في تأثيره في التفرقة بين الزوجين حقيقة ، وأمّا اشتباهه مع المعجزة كما استدلّ به الشيخ في عبارته فيدفعه ـ مضافاً إلى أنّ السحر ليس أمراً خارقاً للعادة ، لأنّه علم خاص يوجب العمل به ، والاستفادة منه تحقّق بعض الآثار التكوينية ، ويحصل العلم بذلك لكلّ من تعلّمه ، كعلم الطّب الّذي يختصّ بخصوص من تعلّمه وصار عارفاً به ، وربّما يترتّب عليه بعض الآثار العجيبة سيّما في هذه الأزمنة التي بلغ مثله المرتبة العالية الكمالية ـ أنّ قاعدة اللطف التي اقتضت إرسال الرسل وإنزال الكتب تقتضي بيان حال ما ظاهره الإعجاز من حيث الصدق والكذب ، وقد أوجب الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ تعلّم السحر على نحو الكفاية لغرض إبطال سحر مدّعي النبوّة الكاذبة .
ويؤيّد بل يدلّ على أنّ للسّحر واقعيّة ـ مضافاً إلى أنّه من السبع الموبقات في عداد الشّرك بالله كما في بعض الروايات(2) ـ ما يدلّ على ترتّب حدّ القتل عليه ، فإنّ ترتّب حدّ القتل لا يناسب مع الأمر الذي لا يكون له واقعية أصلاً ، بل يكون تخييلياً محضاً ، بل في بعض الروايات ترتّب حدّ القتل على مجرّد تعلّمه وإن لم يعمل شيئاً ، كما تقدّم في كتاب الحدود(3) .
نعم لا مجال لإنكار كون بعض أقسامه تخييلياً غير واقعي ، وعليه فيصير
- (1) البقرة 2 : 102 .
- (2) وسائل الشيعة: 11 / 261 ، أبواب جهاد النفس ، ب 46 ح34 .
- (3) تفصيل الشريعة ، كتاب الحدود : 328 .