(الصفحة 49)
غيره طعاماً مسموماً فأكله ذلك الغير عالماً بالسمّ وكونه قاتلاً ، لا شيء على المقدِّم من القصاص والدية ، لأنّه السبب القوي بل المباشر ، فهو القاتل نفسه لا غير ، وإن جهل أحدهما يكون المقدِّم قاتل عمد ، فعليه القصاص مع علمه بهما والدية عليه مع جهله بأحدهما(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى اضطراب عبارة الذيل الظّاهرة في ثبوت قتل العمد مع الدية أيضاً ، إلاّ أن يقال: بأنّ مراده الأعمّ من العمد ومن شبه العمد ـ أنّ الظاهر إنّ قوله: «وإن جهل أحدهما» له مصداقان : أحدهما العلم بكونه سمّاً والجهل بكونه قاتلاً نوعاً ، وثانيهما العلم بكونه قاتلاً مع الجهل بكون سببه السمّ الموجود فيه .
ومن الواضح إسناد القتل في المصداق الثاني إلى الآكل دون المقدِّم; لأنّ مجرّد العلم بكونه قاتلاً وإن لم يعلم سببه يكفي في عدم صحّة الإضافة إلى المقدِّم . إلاّ أن يقال بخروج هذا المورد عن كلامه كما لا تبعد دعويه . وأمّا المصداق الأوّل فيمكن المناقشة فيه أيضاً بأنّه مع احتمال كون السمّ الموجود فيه المعلوم عنده قاتلاً ، يمكن أن يقال: بأنّ إقدامه حينئذ على الأكل يوجب انتساب القتل إليه لا إلى المقدِّم .
وأمّا قوله في الذيل: «والدية عليه مع جهله بأحدهما» فالظاهر عدم تمامية الإطلاق فيه ، فإنّه يكون الثابت في بعض فروض الجهل هو القصاص لا الدية ، وفي بعض الفروض لا مجال لثبوت الدية أيضاً فضلاً عن القصاص ، نعم تثبت الدية فقط في بعض الفروض الاُخر .
أمّا ما كان الثابت فيه هو القصاص ، فإنّه لو كان المقدِّم جاهلاً بوجود السمّ في الطعام ، ولكنّه كان عالماً بكون الطعام مؤثِّراً في القتل غالباً ، ومع ذلك قدّم الطّعام
- (1) مجمع الفائدة والبرهان: 13 / 385 .
(الصفحة 50)
إليه وفرض جهل الآكل بكلا الأمرين ، فالظّاهر فيه ثبوت القصاص ، لتحقّق الضابطة في قتل العمد فيه بعد ضعف المباشرة بالغرور وجهل الآكل ، والجهل بالسمّ لا تأثير له في ارتفاع هذا العنوان بوجه ، لأنّ الملاك هو العلم بتأثيره في القتل لا العلم بعنوانه .
كما أنّه لو كان جاهلاً بكون السمّ المعلوم له مؤثراً في القتل غالباً ولكنه كان التقديم مقروناً بقصد القتل ، فالظاهر بمقتضى ما ذكرنا ثبوت القصاص فيه أيضاً .
وأمّا ما لا مجال للحكم بثبوت الدية فيه أيضاً فهو ما إذا كان المقدِّم جاهلاً بكلا الأمرين وكان وضع السمّ في الطعام فعلاً لغيره ، أو كان الطعام صار مسموماً بسبب الفساد الناشيء من حرارة الهواء أو غيرها ، فإنّه مع جهل المقدِّم بهما وجهل الآكل أيضاً كما هو المفروض لا ترجيح للحكم باستناد القتل إلى المقدِّم بعد كونه مسبَّباً عن التقديم المقرون بالجهل والأكل كذلك ، لو لم نقل بأولويّة المباشر مع التساوي لكونه الجزء الأخير لتحقّق القتل .
فالمقام ـ كما في الجواهر(1) ـ نظير ما ذكروه من الحكم بعدم ضمان الدافع الجاهل لشخص إذا وقع في البئر المحفورة في الطريق عدواناً ، بل المقام أولى من ذلك ، لأنّ الدفع في المثال مؤثِّر في القتل من دون واسطة فعل اختياري من المقتول ، وفي المقام تكون الواسطة متحقّقة ، فإذا لم يضمن فيه فهنا لا يكون ضمان بطريق أولى .
ولا وجه لتنظير المقام بما ذكره جماعة من الأصحاب كالمحقّق(2) والعلاّمة(3)وجمع آخر من ثبوت الدية على من حفر بئراً في داره فدعا غيره فوقع في البئر ،
- (1) جواهر الكلام : 42 / 37 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 1028 .
- (3) قواعد الأحكام: 2 / 317 ، تحرير الأحكام: 2 / 266 .
(الصفحة 51)
وإن كان ناسياً ، للفرق بأنّ الحافر في المثال إنّما هو الفاعل للسبب وإن كان قد نسيه ، وفي المقام لم يتحقّق من المقدِّم مثله ، بل وقع عمل مقرون بالجهل ليس استناد القتل إليه بأولى من الإستناد إلى التناول الذي هو عمل الآكل كما عرفت .
ودعوى أنّ هذه الصورة خارجة عن مفروض كلام المحقّق الأردبيلي; لأنّ المفروض في كلامه صورة الجهل بأحد الأمرين وهذه صورة الجهل بكليهما ، مدفوعة بأنّ الظاهر أنّ مراده الجهل بأحد الأمرين أو كليهما ، وإلاّ يلزم عدم اشتمال كلامه على التعرّض لهذه الصورة بعد التعرّض لصورة العلم بهما وصورة الجهل بأحدهما . وبعبارة أُخرى ظاهر كلامه أنّ المراد بالجهل هو ما يقابل صورة العلم بكلا الأمرين ، فيشمل كلتا الصورتين ، فتدبّر .
وأمّا ما تثبت فيه الدية فهو غير الفرضين اللّذين ذكرنا ، كما إذا جهل بكون السمّ في الطعام مؤثِّراً في القتل ، ولم يكن قاصداً للقتل أيضاً ، فإنّ الظاهر فيه ثبوت الدية ، كما لايخفى .
الفرع الثاني: ما لو قال المقدِّم كذباً ـ أي مع علمه بخلافه ـ أنّ فيه سمّاً غير قاتل وفيه علاج لكذا ، فأكله فمات . وقد حكم في المتن بثبوت القصاص عليه ، والوجه فيه هو الوجه في ثبوته في المسألة السادسة عشر ، وهو ضعف المباشرة بسبب الغرور الناشئ عن التقديم المقرون بإظهار الكذب ، وإعلام أنّ فيه سمّاً غير قاتل ، مع علمه بكونه قاتلاً غالباً ، وليس مجرّد الإعلام بثبوت السمّ فيه رافعاً لاستناد القتل إليه عمداً ، بعد توصيفه بأنّه مداو ومعالج ، ولا يتحقّق فيه وصف القاتلية بوجه .
وبالجملة: اسناد القتل إليه عند العقلاء وكذا كونه من مصاديق قتل العمد ممّا لا خفاء فيه أصلاً .
(الصفحة 52)مسألة 18 ـ لو قدّم إليه طعاماً فيه سمّ غير قاتل غالباً ، فإن قصد قتله ولو رجاء فهو عمد لو جهل الآكل ، ولو لم يقصد القتل فلا قود1.
مسألة 19 ـ لو قدّم إليه المسموم بتخيّل أنّه مهدور الدم فبان الخلاف لم يكن قتل عمد ولا قود فيه2..
الفرع الثالث: ما لو قال المقدِّم أنّ فيه سمّاً وأطلق ، فأكله فمات ، والحكم فيه كما في المتن أنّه لا قود فيه ولا دية . والوجه فيه عدم تحقّق الغرور الموجب لضعف المباشرة ، فإنّه مع الإعلام باشتمال الطّعام على السمّ واحتمال الآكل كون السمّ قاتلاً لا يستند القتل إلاّ إلى المباشر ، ولا يكون من ناحية المقدِّم ما يوجب الضعف ، ولا يجب عليه شرعاً توصيف السمّ بكونه قاتلاً وإن كان ذلك معلوماً له ، فليس المقدِّم قاتلاً أصلاً حتى يتّصف قتله بالعمد أو بغيره ، فلا يكون في البين ضمان مطلقاً .
1 ـ الوجه في هذه المسألة في كلا فرضيها واضح ، لثبوت ضابطة قتل العمد مع قصد القتل ولو رجاءً ، وعدم ثبوتها مع عدمه بعد كون المفروض أنّ السمّ لا يقتل بحسب الغالب .
2 ـ الوجه في عدم ثبوت قتل العمد الموجب للقصاص في هذا الفرض ما مرّ في تعريف الموجب من لزوم وقوع القتل بنحو العدوان ، وبعبارة أُخرى تجب أن تكون النفس معصومة ، فإذا اعتقد عدم كونها كذلك وأنّها مهدورة الدم لا مجال لثبوت القصاص ، وقد مر نظيره في بعض مسائل المرتدّ(1) ، وذكرنا هناك أنّ مقتضى مسألة
- (1) تفصيل الشريعة ، كتاب الحدود : 560 ـ 561 .
(الصفحة 53)20 ـ لو جعل السمّ في طعام صاحب المنزل فأكله صاحب المنزل من غير علم به ، فمات فعليه القود لو كان ذلك بقصد قتل صاحب المنزل ، وأمّا لو جعله بقصد قتل كلب مثلاً فأكله صاحب المنزل فلا قود ، بل الظاهر أنّه لا دية أيضاً ، ولو علم أنّ صاحب المنزل يأكل منه فالظاهر أنّ عليه القود1..
القاعدة عدم ثبوت القصاص . نعم الظاهر كما يشعر به عبارة المتن هنا ووقع التصريح به في تلك المسألة ثبوت الدية عليه ، لعدم بطلان دم محقون الدّم ، غاية الأمر أنّ اعتقاد خلافه يرفع القصاص .
1 ـ في هذه المسألة فروع:
الأوّل: ما لوجعل السمّ في طعام صاحب المنزل فأكله من غير علم فمات ، وكان المقصود من الجعل قتل صاحب المنزل . هكذا عنون في المتن . والظاهر أنّه ليس المراد من السمّ المفروض إلاّ ما كان قاتلاً غالباً ، وعليه فيظهر من المتن ثبوت كلتا الضابطتين لقتل العمد ، وهما : قصد القتل وكون السمّ قاتلاً غالباً في هذا الفرع . مع أنّ الظاهر أنّ المفروض في كلمات الأصحاب وجود إحداهما . ويمكن أن يكون قوله في الذيل: «ولو علم» قرينة على خلاف ما هو ظاهر الصدر من اعتبار كلتيهما .
وكيف كان فقد حكى المحقّق في الشرائع عن الشيخ في الخلاف(1) والمبسوط(2)ثبوت القود في هذا الفرع ، وقال بعده: «وفيه إشكال»(3) ، والوجه في ثبوت القود ما مرّ في مثله من ضعف المباشرة بالغرور ، واستناد قتل العمد إلى الجاعل ، وعدم
- (1) الخلاف: 5 / 171 مسألة 32 .
- (2) المبسوط : 7 / 46 .
- (3) شرائع الإسلام: 4 / 973 .