(الصفحة 74)
القتل جائزاً ، فإنّه إذا لم يشرع لنفسه أن يقتل نفسه ، لعدم كونه مسلَّطاً من قبل المالك الحقيقي على هذا النحو من التصرّف ، فلا وجه لأن يكون إذنه وطلبه موجباً لجوازه للغير ، فهذا القول بمجرّده لا يرفع الحرمة ولا يجوّز القتلَ .
نعم ، لو حمل عليه المُكرِه بعد عدم إطاعته ، ليحقّق القتل المتوعّد به ، يجوز بل يجب عليه الدفاع ولو انجرّ إلى قتل المُكرِه ، لكنّ الجواز في هذه الصورة مستند إلى عنوان الدفاع ، كما فيما لو حمل عليه كذلك من دون إكراه ، لا إلى الإذن المستفاد من قوله ، ولو كان مقروناً بالإكراه والتوعيد .
الثانية: أنّه لو تحقّق القتل من المُكرَه ، مع عدم جوازه له وكونه آثماً في ذلك ، فهل يكون عمله موجباً للقصاص ، كما إذا كان المُكرَه عليه قتل غير المُكرِه ، كما فيما تقدّم من ثبوت القصاص على المُكرَه المباشر أو لا يكون موجباً له ، لخصوصية في المقام غير موجودة في ذلك المورد؟ وجهان:
من أنّه لا فرق بين كون المُكرَه عليه قتل الغير ، وبين ما لو كان قتل نفس المُكرِه ، فإنّه في كلتا الصورتين يكون القتل محرَّماً موجباً للقصاص ، لصدوره عمداً عدواناً .
ومن ثبوت الفرق، إمّا من جهة أنّه إذا كان للوارث الذي هو وليّ المقتول وفرعه، إسقاط الحقّ والعفو عن ضمان القصاص والدية ، فثبوت هذا الحق للمورِّث الذي هو الأصل إنّما هو بطريق أولى ، ضرورة أنّ الرجوع إلى الوارث إنّما هو لعدم إمكان الرجوع إلى المورِّث بسبب الموت ، وإلاّ فالحق له أوّلاً ، فيجوز له إسقاط حقّه ، كما فيما إذا لم يكن في البين إكراه ، كما إذا علم زيد بأنّ عمراً إنّما يكون بصدد قتله وأنّه يقتله في الآجل ، فأسقط حقّه من القصاص والدية ، قائلاً بأنّه إذا صدر قتلي من ناحية عمرو أسقطت حقّي منه ، والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في ذلك .
(الصفحة 75)مسألة 36 ـ لو قال: اقتل نفسك ، فإن كان المأمور عاقلاً مميِّزاً فلا شيء على الآمر ، بل الظاهر أنّه لو أكرهه على ذلك فكذلك ، ويحتمل الحبس أبداً لإكراهه فيما صدق الإكراه ، كما لو قال: اقتل نفسك وإلاّ قتلتك شرّ قتلة1..
نعم يمكن الإشكال في صغرى المسألة بأنّ الإذن في القتل بمجرّده لا يلازم إسقاط الحقّ ، بل يمكن أن يكون الإذن في القتل لغرض ثبوت القصاص أو الدّية عليه ، كما لايخفى .
وإمّا من جهة الشك في شمول أدلّة القصاص للمقام الذي وقع فيه الإذن من المقتول ، خصوصاً مع كون إذنه مقروناً بالتوعيد والإكراه ، وكذا شمول أدلّة الدّية ، ولا أقلّ من أن يكون ذلك شبهة دارئة لخصوص القصاص ، بناء على كونه كالحدود يدرأ بالشبهات ، كما لا تبعد دعواه ، وممّا ذكرنا ظهر وجه ما جعله في المتن أرجح ، أو نفى البعد عنه من عدم ثبوت القصاص والدية ، فتدبّر .
1 ـ في هذه المسألة صور:
الاُولى: ما لو قال له: «اقتل نفسك» ، من دون أن يكون مقروناً بالتوعيد والتخويف ، بل كان في البين مجرّد الأمر والطّلب ، وفي هذه الصورة لو كان المأمور عاقلاً مميّزاً ـ سواء كان بالغاً أم لا ـ يكون القتل مستنداً إلى المأمور المباشر ، لفرض صدوره منه عن تمييز وإرادة ، وعدم تحقّق شيء من الأمر ، سوى مجرّد الأمر والطلب ، فلا مجال لثبوت شيء عليه ، نعم لو كان المأمور غير مميّز فالقود على الآمر كما مرّ ، لكونه في هذه الصورة بمنزلة الآلة له ، والقتل يكون مستنداً إليه لا إلى المباشر .
الثانية: ما لو قال له: «اقتل نفسك وإلاّ قتلتك» ، والظاهر أنّ الحكم فيها هو
(الصفحة 76)
الحكم في الصورة الاُولى ، لأنّ التوعيد بالقتل بمجرّده لا يوجب تحقّق الإكراه مع كون المُكرَه عليه هو قتل نفس المُكرِه ، لأنّه لا معنى للفرار عن القتل المتوعّد به بإيجاده نفسه ، ولا مجال لرفع الخوف عن القتل بسبب فعله .
الثالثة: ما إذا كان في البين إكراه ، وقد فرضها في محكيّ المسالك(1) وكشف اللّثام(2) بقولهما: «نعم لو كان التخويف بنوع من القتل أصعب من النوع الذي قتل به نفسه ، فدفعه به ، اتّجه حينئذ تحقّق الإكراه ، وترتّب القصاص حينئذ على المُكرِه الّذي هو أقوى من المباشر» .
ويمكن فرضها فيما إذا كان صدور القتل من المُكرِه مبغوضاً للمُكرَه زائداً على أصل القتل ، فيختار القتل لئلاّ يتحقّق من المُكرِه الآمر ، وقد احتمل فيها في المتن ثبوت الحبس أبداً بالنسبة إلى المُكرِه; لعدم الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الإكراه على قتل الغير ، التي قد عرفت ثبوت الحبس كذلك فيها فيما تقدّم .
ويحتمل عدم الثبوت; لعدم شمول دليله لمثل هذه الصورة ، وإلغاء الخصوصية غير ظاهر .
وأمّا ترتّب القصاص كما في عبارتي المسالك والكشف فلا يظهر له وجه; لعدم صيرورة قتل النفس مشروعة بمجرّد ذلك ، فهو كقتل الغير الذي لا يسوغ بمجرّد الإكراه ، فأيّ فرق بين الصورتين . وكون القتل المتوعَّد به أصعب أو مبغوضاً لا يجوِّز صدور القتل الإكراهي ، وإلاّ لجاز ـ كما في الجواهر ـ للعالم بأنّه يموت عطشاً مثلاً أن يقتل نفسه بالأسهل من ذلك(3) . ولجاز للمريض الذي يعلم بأنّ مرضه
- (1) مسالك الأفهام: 15 / 90 .
- (2) كشف اللثام: 2 / 444 .
- (3) جواهر الكلام : 42 / 54 .
(الصفحة 77)مسألة 37 ـ يصحّ الإكراه بما دون النفس ، فلو قال له: اقطع يد هذا وإلاّ قتلتك ، كان له قطعها وليس عليه قصاص ، بل القصاص على المُكرِه ، ولو أمره من دون إكراه فقطعها فالقصاص على المباشر ، ولو أكرهه على قطع إحدى اليدين فاختار إحداهما ، أو قطع يد أحد الرجلين فاختار إحداهما فليس عليه شيء ، وإنّما القصاص على المُكرِه الآمر1..
ينجرّ إلى موته أن يقتل نفسه تخلّصاً عن الوجع والألم الذي هو لازم المرض ، ومن المعلوم خلافه .
ثمّ إنّه على فرض جواز القتل ومشروعيته في هذه الصورة ، يكون ثبوت القصاص على المُكرِه غير معلوم أيضاً ، لأنّ جوازه للمُكرَه لا يوجب الإستناد إلى المُكرِه ، وسيأتي البحث في هذه الجهة في المسألة الآتية .
1 ـ في هذه المسألة فروع:
الأوّل: الإكراه بما دون النفس ، مثل ما إذا قال له: «اقطع يد هذا وإلاّ قتلتك» ، ولا شبهة في الجواز في هذا الفرض; لشمول إطلاق دليل رفع الإكراه له ، وعدم وجود ما يدلّ على استثنائه منه ، كاستثناء الإكراه على القتل على ما مرّ ، ومقتضى الشمول مضافاً إلى رفع الحرمة التي هي حكم تكليفي رفع الحكم الوضعي ، وهو ضمان القصاص أو الدية ، فلا شيء على المُكرَه القاطع في المثال .
وأمّا المُكرِه الآمر ، فظاهرهم كما في المتن ثبوت القصاص عليه ، والمحكيّ عن القواعد(1) الإشكال فيه ، نظراً إلى أقوائية السبب عن المباشر وإلى عدم المباشرة ، فتجب عليه الدية دون القصاص .
- (1) قواعد الأحكام: 2 / 282 .
(الصفحة 78)
وأورد عليه في الجواهر ، بأنّ وجوب الدية ليس إلاّ لأجل قوّة السبب على المباشرة ، وهي مقتضية لثبوت القصاص دون الدية(1) .
أقول: أمّا القصاص ، فمنشأه الأقوائية ، والوجه فيها غير واضح ، فإنّ الأقوائية إن كانت مستندة إلى نفس الإكراه ، فاللاّزم الحكم بثبوت القصاص في جميع موارد الإكراه ولو كان المُكرَه عليه هو القتل ، وإن كانت مستندة إلى الإكراه الخاصّ المتحقّق في مثل المقام ، وهو ما لو كان الإكراه موجباً لرفع الحرمة عن العمل المكرَه عليه ، فنقول: إنّ مجرّد ذلك لا يوجب الأقوائية المستلزمة لاستناد الفعل إلى المُكرِه الآمر ، واللاّزم تحقّق هذا الاستناد حتّى يثبت القود .
والظاهر إنّ رفع الحرمة عن المُكرَه المأمور لا يوجب الاستناد إلى المُكرِه الآمر ، كما في مثل الإكراه على شرب الخمر ، فإنّ الإكراه فيه وإن كان موجباً لرفع الحرمة ، فلا يترتّب عليه حدّ شرب الخمر ، إلاّ أنّه لا يوجب الإستناد إلى المُكرِه الآمر ، حتّى يكون هو شارب الخمر فيترتّب على عمله المحرّم الحدّ ، كما لا يخفى .
نعم لايبعد الحكم بثبوت الدّية ، لئلاّ يذهب عضو المسلم هدراً ، وإن كان فيه تأمّل أيضاً ، لاحتمال ثبوت الدّية في بيت المال .
الثاني: الأمر بالقطع من دون إكراه واشتمال على التوعيد والتخويف ، ولا خفاء فيه في ثبوت القصاص على المباشر ، لعدم ارتفاع الحرمة بمجرّد الأمر ، وكون صدوره عن إرادة واختيار .
الثالث: الإكراه على قطع إحدى اليدين بنحو الابهام والتخيير ، أو قطع يد أحد الرجلين كذلك ، وقد تردّد في ثبوت القصاص فيه أوّلاً في الشرائع ، نظراً إلى أنّ
- (1) جواهر الكلام: 42 / 55 .