(الصفحة 8)
(الصفحة 9)
القول في الموجب
وهو إزهاق النفس المعصومة عمداً مع الشرائط الآتية1.
1 ـ القِصاص ـ بالكسر ـ : فعال من قصّ أثره ، إذا تتبعه ، ومن هذا الباب القصة ، بإعتبار كونها تذكرة للأمر الواقع فيما مضى ، والمراد به في المقام تعقيب الجناية الواقعة من قتل أو جرح أو مثلهما بإيراد مثله على الجاني والإتيان بمثل فعله .
وقد ورد في الكتاب العزيز بهذا العنوان أو بما لا ينطبق إلاّ عليه في ضمن الآيات الكثيرة ، فمن الأوّل قوله تعالى:
{وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الأَلبَاب}(1) .
والمراد من الآية دفع ما ربّما يتوهّم في باب القصاص من أنّ مرجعه إلى ضمّ موت إلى موت آخر ومثله ، وهذا ممّا لا يقبله العقل السليم ، وربما يضاف إلى ذلك أنّ من يتصدّى لقتل غيره عدواناً وظلماً لا يكون إلاّ مريضاً ، واللازم أن يعالج حتى لا يتحقّق منه مثله .
(الصفحة 10)
ولكن هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان النظر مقصوراً على القاتل فقط ولم يلاحظ الاجتماع وسائر الناس ، وأمّا مع ملاحظة العموم فالقصاص ضامن لحفظ الحياة ، فإنّه مع تحقّقه لا يتحقّق القتل من غيره إلاّ نادراً ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ كلّ أحد في مقام السعي والمجاهدة لحفظ حياة نفسه وعدم تحقّق ما يوجب التهديد بالإضافة إليها . فإذا رأى أنّ القتل يؤثّر في زوال حياته بالقصاص لا يكاد ينقدح في نفسه إرادته خصوصاً مع كون التصديق بالفائدة من مبادئ الإرادة ، ولا يتصوّر الفائدة مع انتفاء الموضوع أصلاً ، كما لايخفى .
ومن الثاني قوله تعالى:
{مِن أَجل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحيَا النّاسَ جَمِيعاً}(1) .
فإن الظاهر أنّ المراد من قوله :
«بغير نفس» هو عدم كونه بعنوان القصاص ، وأمّا التشبيه الواقع في الآية فقد ورد في توجيهه من أصحاب التفسير أقوال(2):
منها: أنّ معناه هو أنّ الناس كلّهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان ، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعاً ، فأوصل إليهم من المكر ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول ، فكأنّه قتلهم كلّهم; ومن استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة أو استنقذها من ضلال فكأنّما أحيا الناس جميعاً ، أي أجره على الله أجر من أحياهم جميعاً .
ومنها: أنّ من قتل نبيّاً أو إمام عدل فكأنّما قتل الناس جميعاً ، أي يعذَّب عليه ،
- (1) المائدة 5 : 32 .
- (2) ذكرها الطبرسي في مجمع البيان: 3 / 309 ـ 310 .
(الصفحة 11)
كما لو قتل الناس كلّهم ، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام فكأنّما أحيا الناس جميعاً في استحقاق الثواب .
ومنها: أنّ معناه من قتل نفساً بغير حق فعليه مثل مأثم كلّ قاتل من الناس ، لأنّه سنّ القتل وسهّله لغيره ، فكان بمنزلة المشارك فيه ، ومن زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يقتدي به فيه بأن يعظّم تحريم قتلها كما حرّمه الله ، فلم يقدم على قتلها لذلك فقد أحيا الناس بسلامتهم منه .
ومنها: غير ذلك من التأويلات .
ولكنّ الظاهر عدم تمامية شيء منها وعدم انطباقه على ما هو ظاهر الآية ، ولكنّه قد ورد في تفسيرها روايات ولا محيص عن حملها عليها ، مثل رواية محمد ابن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّوجلّ ـ :
{مَنْ قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النّاس جَمِيعَاً} قال: له في النار مقعد ، لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلاّ ذلك المقعد(1) .
ورواية حمران قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ما معنى قول الله عزّوجلّ :
{مِن أَجل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النّاسَ جَمِيعاً} قال: قلت: كيف كأنّما قتل الناس جميعاً ، فإنّما قتل واحداً؟ فقال: يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعاً لكان إنّما يدخل ذلك المكان . قلت: فإنّه قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه(2) .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 2 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 2 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح2 .
(الصفحة 12)
ورواية حنّان بن سدير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ:
{وَمَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرَ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً} قال: هو واد في جهنّم لو قتل الناس جميعاً كان فيه ، ولو قتل نفساً واحدة كان فيه(1) .
ومرجعها إلى اشتراك كليهما في الورود في واد خاصّ في جهنّم ، الذي إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها ، غاية الأمر وجود الإختلاف من جهة الشدّة والضعف بينهما ، كما صرّح بالتضاعف في رواية حمران .
بقي الكلام في بيان ما يوجب القصاص ، وقد ذكر في المتن أنّه إزهاق النفس المعصومة عمداً مع الشرائط الآتية ، وقد عرّفه المحقّق في الشرائع بأنّه: إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً(2) . فأدخل جملة من الشرائط في قوله: المكافئة ، وجملة في العمد ، نظراً إلى أنّ عمد الصبي والمجنون خطأ .
ويرد على المتن ـ مضافاً إلى أنّ الجمع بين توصيف النفس بالمعصومة مع جعل واحد من الشرائط الآتية «كونه محقون الدم» ممّا لا فائدة فيه أصلاً; لأنّ المراد منهما أمر واحد ـ أنّه إن كان المراد بالمعصومة هو المعصومة مطلقا وبالإضافة إلى كلّ أحد كما هو ظاهر الإطلاق ، فاللازم أن لا يكون قتل من استحق القتل قصاصاً أو دفاعاً موجباً للقصاص إذا تحقّق من الأجنبيّ; لعدم كونه معصوماً مطلقاً; لجواز قتله بالإضافة إلى ورثة المقتول أو الدافع ، وإن كان المراد هو المعصومة بالإضافة إلى القاتل فاللازم التقييد به وعدم الاقتصار على الإطلاق .
ثمّ إنّ النفس غير المعصومة قد تكون مهدورة الدّم كما في سابّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)أو
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 5 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 10 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 971 .