(الصفحة 94)
مسبَّباً عن الضربة الواحدة الصادرة منه ، كما لايخفى .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة في المقام هو الحكم بعدم الدخول مطلقاً .
وأمّا بملاحظة الروايات فلابدّ من نقلها وملاحظة مفادها ، فنقول:
منها: رواية صحيحة لمحمد بن قيس ، عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل فقأ عيني رجل وقطع أذنيه ثم قتله ، فقال: إن كان فرّق ذلك اقتصّ منه ثم يقتل ، وإن كان ضربه ضربة واحدة ضربت عنقه ولم يقتصّ منه(1) . و ورودها في المقام ظاهر ، كما أنّ دلالتها على القول الثالث الذي اختاره الشيخ في النهاية واستقر به المحقّق في الشرائع أيضاً كذلك .
ومنها: صحيحة حفص بن البختري ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل ضُرِبَ على رأسه ، فذهب سمعه وبصره واعتقل لسانه ثم مات؟ فقال: إن كان ضربه ضربة بعد ضربة اقتصّ منه ثمّ قتل ، وإن كان أصابه هذا من ضربة واحدة قتل ولم يقتصّ منه(2) . ولكنّ الظاهر أنّ موردها السراية الخارجة عن محلّ البحث .
ومنها: صحيحة أبي عبيدة الحذّاء ، قال : سألت أباجعفر (عليه السلام) عن رجل ضرب رجلاً بعمود فسطاط على رأسه ضربة واحدة ، فأجافه حتّى وصلت الضربة إلى الدماغ فذهب عقله؟ قال : إن كان المضروب لا يعقل منها أوقات الصلاة ولا يعقل ما قال ولا ما قيل له فإنّه ينتظر به سنة ، فإن مات فيما بينه وبين السنة أقيد به ضاربه ، وإن لم يمت فيما بينه وبين السنة ولم يرجع إليه عقله اُغرم ضاربه الدية في ماله لذهاب عقله .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 82 ، أبواب القصاص في النفس ب 51 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 83 ، أبواب القصاص في النفس ب 51 ح2 .
(الصفحة 95)
قلت: فما ترى عليه في الشجّة شيئاً؟ قال: لا ، لأنّه إنّما ضرب ضربة واحدة فجنت الضربة جنايتين ، فألزمته أغلظ الجنايتين وهي الدية ، ولو كان ضربه ضربتين فجنت الضربتان جنايتين لألزمته جناية ما جنتا كائناً ما كان ، إلاّ أن يكون فيها الموت(1) بواحدة ، وتطرح الاُخرى فيقاد به ضاربه . فإن ضربه ثلاث ضربات واحدة بعد واحدة فجنين ثلاث جنايات ألزمته جناية ما جنت الثلاث ضربات كائنات ما كانت ما لم يكن فيها الموت ، فيقاد به ضاربه .
قال: فإن ضربه عشر ضربات فجنين جناية واحدة ألزمته تلك الجناية التي جنتها العشر ضربات(2) .
وهي ظاهرة بل صريحة في أنّه مع تعدّد الضربة وترتّب جنايتين إحداهما الموت ، لا يترتّب إلاّ مجرّد قصاص الضارب بالإضافة إلى النفس ، فيدخل قصاص الطرف في قصاص النفس في هذه الصورة ، وقد مرّ ظهور صحيحة محمد بن قيس باعتبار القضية الشرطية الاُولى في عدم الدخول وتعدّد القصاص ، وعليه فيقع التعارض بين الصحيحتين في الصورة المذكورة .
والجمع الدلالي بينهما ـ إمّا بحمل التفريق في صحيحة ابن قيس على التفريق من حيث الزمان لا على تعدّد الضربة ، وإمّا بحمل قوله (عليه السلام) : «إلاّ أن يكون فيهما الموت» وكذا «ما لم يكن فيها الموت» على مورد السراية ، كما ربّما استظهره صاحب الجواهر (قدس سره)(3) ـ ممّا لا مجال له أصلاً ، لظهور الرواية الأولى بقرينة المقابلة في كون
- (1) وفي نقل صاحب الجواهر بعد كلمة «الموت» : «فيقاد به ضاربه بواحدة ويطرح الأخرى» جواهر الكلام: 42 / 63 ، وهو الظاهر (المؤلّف) .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 281 ، أبواب ديات المنافع ب 7 ح1 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 62 .
(الصفحة 96)
المراد بالتفريق هو تعدّد الضربة ، وإن وقعتا في زمان واحد بل في آن واحد ، كما إذا أخذ بيده اليمنى سيفاً وبيده اليسرى سيفاً آخر فضرب بهما دفعة ، فقطع اليد بإحداهما وقتل بالأُخرى .
وعليه فالحمل على خلافه حمل على غير ظاهر من دون جهة ، كما أنّ حمل الرواية الثانية على صورة السراية خلاف ظاهرها بل صريحها ، فلا يبقى مجال للجمع من حيث الدّلالة ، بل اللاّزم الرجوع إلى قواعد باب التعارض والأخبار الواردة في علاج المتعارضين .
وحيث إنّه ليست في المسألة شهرة من حيث الفتوى حتّى يؤخذ بما يوافقها ، فتصل النوبة إلى المرجِّحات البعدية ، والظاهر حينئذ أنّ الترجيح مع صحيحة محمّد بن قيس ; لموافقتها للكتاب الظاهر في عدم التداخل على ما مرّ في بيان مقتضى القاعدة .
وهذا لا ينافي تخصيص القاعدة في صورة الضربة الواحدة التي اتفقت الروايتان على ثبوت التداخل فيها ، لعدم استلزامه للتخصيص في صورة التعدّد أيضاً بعد اختلافهما في ذلك ، كما لا يخفى .
وعلى ماذكرنا فملاحظة الروايات تقتضي ترجيح التفصيل الذي اختاره الشيخ في النهاية(1) والمحقّق في الشرائع(2)، وإن كان مستندالثاني اقتضاء القاعدة له ، كما عرفت.
بقي الكلام في أُمور:
الأوّل: أنّه حكي عن نكت النهاية(3) للمحقّق أنّه حكم بأنّه يعارض صحيحة
- (1) النهاية: 771 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 977 .
- (3) نكت النهاية: 3/446 .
(الصفحة 97)
أبي عبيدة المتقدّمة خبر إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل ضرب رجلاً بعصا ، فذهب سمعه وبصره ولسانه وعقله وفرجه وانقطع جماعه وهو حيّ ، بستّ ديات(1) .
وعن مرآة العقول: لعلّ المراد بذهاب الفرج ذهاب منفعة البول بالسلس ، أو أنّه لا يستمسك غائطه ولا بوله ، ويحتمل أن يكون في اللّسان ديتان لذهاب منفعة الذوق والكلام معاً ، فيكون قوله: «وانقطع جماعه» عطف تفسير ، ويحتمل على بعد أن يكون بالحاء المهملة محرّكة أي صار بحيث يكون دائماً خائفاً ، فيكون بمعنى طيران القلب ، كما قيل ، لكن مع بعده لا ينفع ، إذ الفرق بينه وبين ذهاب العقل مشكل ، والأوّل أظهر(2) .
والظاهر أنّ مراده المعارضة في مسألة الدية لظهور رواية أبي عبيدة في الوحدة ، وهي دية أغلظ الجنايات ، وظهور الخبر في التعدّد ، وإمّا مسألة القصاص التي هي محل البحث في المقام فلا مجال لدعوى المعارضة بعد عدم تعرّض الخبر للقصاص بوجه .
الثاني: ذكر صاحب الجواهر(3) أنّه من جملة أدلّة القول بالتداخل مطلقاً ما روي من أنّه إذا مثّل إنسان بغيره وقتله لم يكن عليه إلاّ القتل ، ولم يجز التمثيل به(4) .
وقد جمعت الروايات الواردة في هذا الأمر في الباب الثاني والستّين من أبواب
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 280 ، أبواب ديات المنافع ب 6 ح1 .
- (2) مرآة العقول: 24 / 114 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 64 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 ـ 95 ـ 96 ، أبواب القصاص في النفس ب62 .
(الصفحة 98)
القصاص في النفس في كتاب الوسائل(1) . وبعد المراجعة إليها ظهر عدم ارتباطها بالمقام ، لأنّ بعضها وارد في مورد وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن لا يمثَّل بقاتله ، وبعضها وارد في تفسير قوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلطاناً فَلاَ يُسرِف فِي القَتلِ}(2) وأنّ المراد من النهي عن الإسراف هو النهي عن أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل ، وبعضها وارد في مورد رجل ضرب رجلاً بعصا ، فلم يقلع عنه الضرب حتّى مات ، وأنّه يجوز قتله ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجيز عليه بالسيف .
ومن الواضح عدم ارتباط شيء منها بالمقام . أمّا عدم ارتباط الأوّلين فظاهر ، لأنّ المفروض عدم تحقّق التمثيل من القاتل قبلاً ، حتّى يمثّل به . وأمّا عدم ارتباط الأخير ، فلعدم ظهوره في تحقّق موجب القصاص بالإضافة إلى الطرف من ناحية الضارب ، لأنّ مورده إدامة الضرب بالعصا حتّى انجرّ إلى الموت . وأمّا تحقق جناية موجبة للقصاص في العضو ، فلا دلالة عليه لو لم نقل بأنّ عدم التعرّض يكشف عن عدمه ، كما لا يخفى . والحكم بأنّه يجيز عليه بالسيف لا يلازم الاقتصار على القتل في مورد ثبوت موجب القصاص في العضو ، خصوصاً فيما كانت الضربات متعدّدة ، كما هو محلّ الاختلاف بين الصّحيحتين المتقدّمتين على ما عرفت ، فهذه الروايات لايستفاد منها شيء في المقام .
الثالث: إنّ ما في المتن من نفي البعد عن أوجهية الوجه الأخير مع عدم دلالة شيء من الأدلّة المتقدّمة عليه ظاهراً يمكن أن يكون مستنداً إلى أحد وجهين:
- (1) وسائل الشيعة: 19 ـ 95 ـ 96 ، أبواب القصاص في النفس ب62 .
- (2) الإسراء 17 : 33 .