(الصفحة 96)
المراد بالتفريق هو تعدّد الضربة ، وإن وقعتا في زمان واحد بل في آن واحد ، كما إذا أخذ بيده اليمنى سيفاً وبيده اليسرى سيفاً آخر فضرب بهما دفعة ، فقطع اليد بإحداهما وقتل بالأُخرى .
وعليه فالحمل على خلافه حمل على غير ظاهر من دون جهة ، كما أنّ حمل الرواية الثانية على صورة السراية خلاف ظاهرها بل صريحها ، فلا يبقى مجال للجمع من حيث الدّلالة ، بل اللاّزم الرجوع إلى قواعد باب التعارض والأخبار الواردة في علاج المتعارضين .
وحيث إنّه ليست في المسألة شهرة من حيث الفتوى حتّى يؤخذ بما يوافقها ، فتصل النوبة إلى المرجِّحات البعدية ، والظاهر حينئذ أنّ الترجيح مع صحيحة محمّد بن قيس ; لموافقتها للكتاب الظاهر في عدم التداخل على ما مرّ في بيان مقتضى القاعدة .
وهذا لا ينافي تخصيص القاعدة في صورة الضربة الواحدة التي اتفقت الروايتان على ثبوت التداخل فيها ، لعدم استلزامه للتخصيص في صورة التعدّد أيضاً بعد اختلافهما في ذلك ، كما لا يخفى .
وعلى ماذكرنا فملاحظة الروايات تقتضي ترجيح التفصيل الذي اختاره الشيخ في النهاية(1) والمحقّق في الشرائع(2)، وإن كان مستندالثاني اقتضاء القاعدة له ، كما عرفت.
بقي الكلام في أُمور:
الأوّل: أنّه حكي عن نكت النهاية(3) للمحقّق أنّه حكم بأنّه يعارض صحيحة
- (1) النهاية: 771 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 977 .
- (3) نكت النهاية: 3/446 .
(الصفحة 97)
أبي عبيدة المتقدّمة خبر إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل ضرب رجلاً بعصا ، فذهب سمعه وبصره ولسانه وعقله وفرجه وانقطع جماعه وهو حيّ ، بستّ ديات(1) .
وعن مرآة العقول: لعلّ المراد بذهاب الفرج ذهاب منفعة البول بالسلس ، أو أنّه لا يستمسك غائطه ولا بوله ، ويحتمل أن يكون في اللّسان ديتان لذهاب منفعة الذوق والكلام معاً ، فيكون قوله: «وانقطع جماعه» عطف تفسير ، ويحتمل على بعد أن يكون بالحاء المهملة محرّكة أي صار بحيث يكون دائماً خائفاً ، فيكون بمعنى طيران القلب ، كما قيل ، لكن مع بعده لا ينفع ، إذ الفرق بينه وبين ذهاب العقل مشكل ، والأوّل أظهر(2) .
والظاهر أنّ مراده المعارضة في مسألة الدية لظهور رواية أبي عبيدة في الوحدة ، وهي دية أغلظ الجنايات ، وظهور الخبر في التعدّد ، وإمّا مسألة القصاص التي هي محل البحث في المقام فلا مجال لدعوى المعارضة بعد عدم تعرّض الخبر للقصاص بوجه .
الثاني: ذكر صاحب الجواهر(3) أنّه من جملة أدلّة القول بالتداخل مطلقاً ما روي من أنّه إذا مثّل إنسان بغيره وقتله لم يكن عليه إلاّ القتل ، ولم يجز التمثيل به(4) .
وقد جمعت الروايات الواردة في هذا الأمر في الباب الثاني والستّين من أبواب
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 280 ، أبواب ديات المنافع ب 6 ح1 .
- (2) مرآة العقول: 24 / 114 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 64 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 ـ 95 ـ 96 ، أبواب القصاص في النفس ب62 .
(الصفحة 98)
القصاص في النفس في كتاب الوسائل(1) . وبعد المراجعة إليها ظهر عدم ارتباطها بالمقام ، لأنّ بعضها وارد في مورد وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن لا يمثَّل بقاتله ، وبعضها وارد في تفسير قوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلطاناً فَلاَ يُسرِف فِي القَتلِ}(2) وأنّ المراد من النهي عن الإسراف هو النهي عن أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل ، وبعضها وارد في مورد رجل ضرب رجلاً بعصا ، فلم يقلع عنه الضرب حتّى مات ، وأنّه يجوز قتله ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجيز عليه بالسيف .
ومن الواضح عدم ارتباط شيء منها بالمقام . أمّا عدم ارتباط الأوّلين فظاهر ، لأنّ المفروض عدم تحقّق التمثيل من القاتل قبلاً ، حتّى يمثّل به . وأمّا عدم ارتباط الأخير ، فلعدم ظهوره في تحقّق موجب القصاص بالإضافة إلى الطرف من ناحية الضارب ، لأنّ مورده إدامة الضرب بالعصا حتّى انجرّ إلى الموت . وأمّا تحقق جناية موجبة للقصاص في العضو ، فلا دلالة عليه لو لم نقل بأنّ عدم التعرّض يكشف عن عدمه ، كما لا يخفى . والحكم بأنّه يجيز عليه بالسيف لا يلازم الاقتصار على القتل في مورد ثبوت موجب القصاص في العضو ، خصوصاً فيما كانت الضربات متعدّدة ، كما هو محلّ الاختلاف بين الصّحيحتين المتقدّمتين على ما عرفت ، فهذه الروايات لايستفاد منها شيء في المقام .
الثالث: إنّ ما في المتن من نفي البعد عن أوجهية الوجه الأخير مع عدم دلالة شيء من الأدلّة المتقدّمة عليه ظاهراً يمكن أن يكون مستنداً إلى أحد وجهين:
- (1) وسائل الشيعة: 19 ـ 95 ـ 96 ، أبواب القصاص في النفس ب62 .
- (2) الإسراء 17 : 33 .
(الصفحة 99)مسألة 44 ـ لو اشترك اثنان فما زاد في قتل واحد اقتصّ منهم إذا أراد الوليّ ، فيردّ عليهم ما فضل من دية المقتول ، فيأخذ كلّ واحد ما فضل عن ديته ، فلو قتله اثنان وأراد القصاص يؤدّي لكلّ منهما نصف دية القتل ، ولو كانوا ثلاثة فلكلّ ثلثا ديته ، وهكذا ، وللوليّ أن يقتصّ من بعضهم ، ويردّ الباقون .
أحدهما: أن يحمل قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن قيس المتقدّمة: «وإن كان ضربه ضربة واحدة» على أنّ المراد هو العمل الواحد الذي لا ينافي تعدّد الضربات المتوالية ، وعليه فالمراد بالتفريق الواقع في مقابله هو تعدّد العمل المستلزم للتفرّق والفصل ، ويؤيّده أنّ وقوع مجموع هذه الجنايات بالضربة الواحدة بمعناها المقابل لتعدّد الضربات مستبعد جدّاً ، فالمراد وقوعها متوالية من غير فصل .
ثانيهما: هو الرجوع إلى القاعدة ، ورفع اليد عن الروايات بعد تعارضها وعدم إمكان الجمع بينها ، كما يستفاد ذلك من المحقِّق في الشرائع ، حيث استدلّ على مختاره بالقاعدة كما عرفت .
وعليه فالقاعدة تقتضي هذا الوجه الأخير ، لأنّه مع اتّحاد العمل الموجب للموت لا ينطبق على العامل إلاّ مجرّد عنوان القاتل الموجب لقصاص النفس ، وتعدّد الضربات بعد فرض التوالي لا يقدح في الاتّحاد بوجه ، وعليه فالدليل الشامل للمقام هو دليل قصاص النفس .
وأمّامع تعدّدالعملوتحقّق الضربات مع الفصل، فلامانع عن شمول دليل القصاص للجناية الأُولى الواردة على العضو الموجبة للقصاص ، وتعقّبها بجناية القتل لا يمنع عن ذلك ، فلا مجال للتداخل في هذا الفرض ، ولكن بعد ملاحظة ما ذكرنا من المراد من الرواية ومن بيان مقتضى القاعدة ، يظهر أنّ كلاًّ من الوجهين مخدوش ، ولا ينبغي الاعتماد عليه ، ولكن كما في المتن «والمسألة بعد مشكلة» ، فتدبّر .
(الصفحة 100)المتروكون دية جنايتهم إلى الذي اقتصّ منه ، ثم لو فضل للمقتول أو المقتولين فضل عمّا ردّه شركاؤهم قام الوليّ به ويردّه إليهم ، كما لو كان الشركاء ثلاثة فاقتصّ من اثنين فيردّ المتروك دية جنايته وهي الثلث إليهما ويردّ الوليّ البقية إليهما ، وهي دية كاملة ، فيكون لكلّ واحد ثلثا الدية1..
1 ـ يقع البحث في هذه المسألة من جهات:
الاُولى: في أنّه هل يكون للوليّ في صورة الشركة في القتل بحيث يكون القاتل متعدّداً ، ويسند القتل إلى أزيد من واحد أن يقتصّ من الجميع ، أو ليس له حقّ القصاص أصلاً ، أوليس له حقّ القصاص بالنسبة إلى أزيد من واحد؟ وجوه واحتمالات في بادئ النظر . وفي الجواهر نفى وجدان الخلاف في الأوّل ، قال: بل الإجماع بقسميه عليه(1) ، وحكي عن بعض العامّة(2) أنّه ليس للوليّ إلاّ قتل واحد منهم ويأخذ حصّة الآخرين ولا يقتل الجميع ، وعن بعضهم(3) فضّ القصاص عليهم ، على معنى استحقاق الوليّ عشر الدم في العشرة إلاّ أنّه لا يمكن استيفاؤه إلاّ باستيفاء الباقي ، وقد يستوفى من المتعدّي غير المستحق عليه ، كما إذا لم يمكن استيفاء المستحق إلاّ به ، كما لو أدخل الغاصب المغصوب في بيت ضيّق واحتيج في ردّه إلى هدم الجدار وقلع الباب .
ولابدّ أوّلاً من ملاحظة أن الأدلّة العامّة الواردة في القصاص هل يستفاد منها ثبوت حقّ القصاص بالإضافة إلى الجميع ، كما هو ظاهر الجواهر(4) أم لا؟
- (1) جواهر الكلام: 42 / 66 .
- (2) الخلاف: 5 / 156 مسألة 14 ، المغني لابن قدامة: 9 / 366 ـ 367 .
- (3) المغني لابن قدامة: 9 / 366 ، المجموع: 20 / 33 .
- (4) جواهر الكلام: 42 / 67 .