(الصفحة 183)
اللهو المضاف إلى الحديث بما لا يكون مرتبطاً إلاّ بالكيفيّة، لا بالكلام أصلاً ، ولذا عرفت جريانه في القرآن أيضاً .
ولم يظهر لي إلى الآن ما يحقّ جواباً عن السؤال وحلاًّ للإشكال، فالأولى البحث في تعريف الغناء، فنقول :
قال الشيخ الأعظم (قدس سره) بعد قوله : وإن اختلفت فيه عبارات الفقهاء واللغويين ما لفظه : فعن المصباح: أنّ الغناء الصوت(1)، وعن آخر: أنّه مدّ الصوت(2) ، وعن النهاية، عن الشافعي: أنّه تحسين الصوت وترقيقه . وعنها أيضاً: أنّ كلّ من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرب غناء (3).
ثمّ قال : وكلّ هذه المفاهيم ممّا يعلم عدم حرمتها، وعدم صدق الغناء عليها، فكلّها إشارة إلى المفهوم المعيّن عرفاً(4) .
والظاهر أنّ المراد من الذيل أنّ هذه التعاريف لفظيّة وفي مقام شرح اللفظ، وليست بصدد بيان الحقيقة والتعريف المنطقي بجميع أبعاده، فهو نظير ما ذكره المحقّق الخراساني (قدس سره) (5) في أغلب التعاريف من أنّها تعريفات لفظيّة لا حقيقيّة، مثل قول اللغوي: سعدان نبت(6) ، فتدبّر .
- (1) المصباح المنير: 455.
- (2) لم نظفر به عاجلاً. نعم، جعله المحقّق النراقي في المستند 14: 124 ثامن الأقوال من دون إسناد إلى قائل معيّن.
- (3) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3: 391، وفيه: تحسين القراءة، وفي معجم تهذيب اللغة 3: 2703 «تحزين القراءة وترقيقها».
- (4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 291.
- (5) كفاية الاُصول: 95.
- (6) الصحاح 1: 417، القاموس المحيط 1: 418، المعجم الوسيط: 430.
(الصفحة 184)
وأمّا الفقهاء، فالمحكيّ عن المشهور(1) أنّ الغناء عبارة عن مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب .
والطرب خفّة تصيب الإنسان لشدّة حزن أو سرور، كما عن الصحاح(2)، أو خفّة من سرور أو همّ، كما عن أساس الزمخشري(3) .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ حسن الصوت مأخوذ في الغناء، ويظهر ذلك من المتن، حيث نفى كونه مجرّد التحسين وإن لم يؤخذ فيه في التعريف ، فما يظهر من الشيخ الأعظم(4)من دخول قبيح الصوت في الغناء، كأنّه في غير محلّه .
نعم ، الظاهر أنّ المراد شأنيّة الإطراب وإيجاد الطرب ، فلو لم يحصل الطرب بالفعل لكثرة الاعتياد بالغناء وسماعه لا يكون قادحاً في الصدق، بل سبيله سبيل حرمة الخمر للإسكار; فإنّ الحرمة ثابتة ولو بالنسبة إلى من يتحقّق له الإسكار لكثرة الشرب وتعدّده .
وعليه: فقوله في المتن: «تناسب مجالس اللهو، ومحافل الطرب» كأنّه للإشارة إلى هذا الأمر; وهو عدم مدخليّة الإطراب الفعلي، فلا يكون أمراً زائداً على أصل التعريف، ولا حاجة إلى إضافة «أو ما يسمّى في العرف غناء» كما في بعض الكتب(5) ، كما أنّه لا وجه لدعوى كون الطرب المأخوذ في التعريف غير الطرب
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 57، مفاتيح الشرائع 2: 20، رياض المسائل 8 : 62، مستند الشيعة 14: 125، جواهر الكلام 22: 45، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 291.
- (2) الصحاح 1: 184.
- (3) أساس البلاغة: 385.
- (4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 293.
- (5) التنقيح الرائع 2: 11، الروضة البهيّة 3: 212، مسالك الأفهام 3: 126، مجمع الفائدة والبرهان 8 : 57، شرح اُصول الكافي والروضة للمولى محمّد صالح المازندراني 1: 39، الحدائق الناضرة 18: 101.
(الصفحة 185)
المفسّر بما تقدّم بعد عدم وجود الاشتراك اللفظي في مادّة الطرب، كما هو ظاهر .
والظاهر أنّ الغناء بالمعنى المذكور المعروف من مصاديق عنوان «الموسيقى» بالألف المقصورة الذي هو كلمة يونانيّة أو سريانيّة أو فرنجيّة، ومركّب من كلمتين «موسى» بمعنى النغمة «وقى» بمعنى الموزون المنتظم .
قال ابن خلدون في مقدّمته في تعريف الغناء ما محكيّ لفظه: «هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع على كلّ صوت منها توقيعاً (إيقاعاً خ ل) عند قطعه فتكون نغمة. ثمّ تؤلّف تلك النَّغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذُّ سَماعُها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفيّة في تلك الأصوات. وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت، وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر، واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب، وليس كلّ تركيب منها ملذوذاً عند السَّماع، بل تراكيب خاصّة; وهي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلّموا عليها، كما هو مذكور في موضعه، وقد يساوق ذلك التَّلحين في النغمات الغنائيّة بتقطيع أصوات اُخرى من الجمادات ; إمّا بالقرع، أو بالنّفخ في الآلات تتّخذ لذلك فيزيدها لذّة عند السماع ،(1) انتهى .
وقال الشيخ الرئيس فيما حكي عنه في كتاب الشفاء في رسم الموسيقى ما لفظه : الموسيقى علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم; من حيث تأتلف وتتنافر وأحوال الأزمنة المتخلّلة بينها; ليعلم كيف يؤلّف اللحن ، وقد دلّ حدّ الموسيقى على أنّه يشتمل على بحثين :
- (1) مقدّمة ابن خلدون: 423.
(الصفحة 186)
أحدهما:البحث عن أحوال النغم أنفسها، وهذا القسم يختصّ باسم التأليف .
والثاني:البحث عن أحوال الأزمنة المتخلّلة بينها، وهذا البحث يختصّ باسم علم الإيقاع(1) .
أقول : هذا التعريف ينطبق على الغناء أيضاً وإن لم يكن مذكوراً في كلامه ، كما أنّ تعريف ابن خلدون ظاهر أو كالصريح في كون الغناء من الموسيقى، وأنّ الغناء إذا ساوق الموسيقى الاصطلاحي ـ أي الأصوات الموزونة الخارجة عن الآلة الجماديّة ـ يكون أثره زيادة الالتذاذ، ولا محالة لابدّ من الالتزام بتحقّق حرمتين ومخالفة حكمين موجبة لاستحقاق عقوبتين .
وأمّا إشعار صدر التعريف الأوّل بأنّ الغناء هو تلحين الأشعار، فالظاهر أنّه لا مدخليّة للشعريّة في ذلك، بل قوام الغنائيّة بانتظام الأصوات بالنحو المذكور، وذكر الأشعار لعلّه للغلبة، وحيث جرى في الكلام ذكر الشعر فلا بأس بالإشارة إلى حكم فروضه، فإن كان متضمّناً للعقائد الحقّة فيما يتعلّق بالخالق، أو مشتملاً على مراثي أو مدائح الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) ، فالظاهر أنّه مضافاً إلى عدم حرمته، يكون لشاعره عند الله ثواب وأجر .
وإن كان مدلوله التعشّق بزوجته وبيان خصوصيّاتها، فالظاهر أيضاً أنّه لامانع منه ، وإن كان مفاده التعشّق بموجود معلوم غير زوجته الحليلة، فالحكم فيه عدم الجواز ووجهه واضح .
كما أنّه لو كان مفاده التعشّق بموجود و همّي خياليّ، أو كان في مدح بعض من له سلطان، فالظاهر أنّه مكروه، ولعلّه المراد من قوله ـ تعالى ـ : {وَ الشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ
- (1) الشفاء، الفنّ الثالث من الرياضيات; وهو في علم الموسيقى: 9.
(الصفحة 187)
{الْغَاوُونَ}(1) وإن كان التحقيق في مفاده يحتاج إلى مراجعة التفاسير .
المقام الثالث : فيما استثناه في المتن من حرمة الغناء بقوله : «نعم، قد يستثنى غناء المغنّيات في الأعراس، وهو غير بعيد، ولا يترك الاحتياط بالاختصار على زفّ العرائسوالمجلس المعدّ له مقدّماً ومؤخّراً، لا مطلق المجالس ، بل الأحوط الاجتناب مطلقاً». وقدتبع في ذلك الأكثر(2)، وقدأطلق جماعة حرمة الغناء من دون استثناء(3).
نعم ، صريح فخر المحقّقين فيما حكي عنه المنع(4); لتقديم أدلّة الحرمة المتواترة على مستند الجواز مع كونه نصّاً فيه .
والمستند رواية أبي بصير ـ التي رواها المشايخ الثلاثة عنه ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال(5) .
وصاحب الوسائل قد روى فيها في باب واحد ثلاث روايات عن أبي بصير، وظاهرها كصريح الشيخ الأعظم الأنصاري(6) التعدّد، مع أنّه من الواضح ـ كما نبّهنا
- (1) سورة الشعراء 26: 224.
- (2) النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 367، الاستبصار 3: 62، المختصر النافع: 196، مختلف الشيعة 5: 49ـ50 مسألة 14، تحرير الأحكام 2: 259، الرقم 3012، الدروس الشرعيّة 3: 162، الروضة البهيّة 3: 213، كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 434، رياض المسائل 8 : 62، مستند الشيعة 14: 141، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 313 ـ 314.مصباح الفقاهة 1: 491 ـ 492.
- (3) المقنعة: 588، الكافي في الفقه: 281، المراسم العلويّة: 172، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 224، إرشاد الأذهان 1: 357.
- (4) إيضاح الفوائد 1: 405.
- (5) الكافي5: 120ح3، الفقيه3: 98 ح376، تهذيب الأحكام 6: 357 ح1022، الاستبصار 3: 62 ح205، وعنها وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب15 ح3، وقد تقدّمت قطعة منه في ص169.
- (6) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 305.