(الصفحة 188)
عليه مراراًـ وحدة الرواية وعدم التعدّد وإن كان الرواة عن أبي بصير مختلفين .
وكيف كان، فالبحث في الرواية تارةً: من حيث السند ، واُخرى: من جهة الدلالة.
أمّا من الجهة الاُولى، فقد صرّح الشيخ الأعظم(1) بأنّ رواية أبي بصير غير صحيحة، والشهرة الجابرة غير محقّقة، ولكن الرواية الثانية لأبي بصير وصفت بالصحّة على ما في تقريرات بعض الأعلام (قدس سره) في المكاسب المحرّمة(2) .
وأمّا من الجهة الثانية، فقوله (عليه السلام) : «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» لا دلالة له على الحلّية في مطلق ما إذا لم يكن كذلك ، بل لابدّ من حفظ الموصوف والتقييد بأنّها ليست كذلك ، فالمغنّية التي تزفّ العرائس إذا لم تكن كذلك لا مانع من أخذها الاُجرة، ولا محالة لا يكون عملها محرّماً ; لعدم اجتماع جواز الأخذ مع حرمة العمل ، كما أنّه لابدّ من التوسعة إلى الغناء الذي لم يكتف بمحرّم آخر; كالتكلّم بالأباطيل، والاستفادة من آلات الملاهي ; لعدم خصوصيّة لدخول الرجال .
نعم ، لابدّ كما في المتن من الاقتصار على زفّ العرائس والمجالس المعدّة له مقدّماً أو مؤخّراً; لذكر هذا العنوان في الرواية على ما عرفت، وإن كان الأحوط بلحاظ ما عرفت من تصريح بعض بالمنع، وظهور كلمات جماعة فيه الترك مطلقاً، كما في المتن .
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 306.
- (2) مصباح الفقاهة 1: 482.
(الصفحة 189)معونة الظالمين
مسألة 14 : معونة الظالمين في ظلمهم ـ بل في كلّ محرّم ـ حرام بلا إشكال ، بل ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج من الإسلام(1) . وعنه (صلى الله عليه وآله) : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة(2) حتّى من برى لهم قلماً، ولاق لهم دواة ، قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يُرمى بهم في جهنّم(3) .
وأمّا معونتهم في غير المحرّمات، فالظاهر جوازها ما لم يعدّ من أعوانهم وحواشيهم والمنسوبين إليهم، ولم يكن اسمه مقيّداً في دفترهم وديوانهم، ولم يكن ذلك موجباً لازدياد شوكتهم وقوّتهم1.
1 ـ يقع البحث في المسألة في مقامين :
- (1) تنبيه الخواطر 1: 54 و ج2: 232، وعنه وسائل الشيعة 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح15.
- وفي بحار الأنوار 75: 377 ح31 وص381 ضمن ح 45، ومستدرك الوسائل 13: 125، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14966 عن كنز الفوائد للكراجكي 1: 351، وجامع الأخبار: 436 ح1223 باختلاف.
- ورواه البخاري في التاريخ الكبير 4: 250 رقم الترجمة 2693، والطبراني في المعجم الكبير 1: 227 ح619، و شعب الإيمان 10: 127 ح7269، والفردوس بمأثور الخطاب 3: 547 ح5709، ومشكاة الأنوار 2: 293 ح1822، وإرشاد القلوب للديلمي: 351، والترغيب والترهيب للمنذري 3: 199 ح6، ومشكاة المصابيح 2: 300 ح5135، ومجمع الزوائد 4: 205.
- (2) في تنبيه الخواطر والوسائل: وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة، إلخ.
- (3) تنبيه الخواطر 1: 54، وعنه وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح16.
- وفي معالم الزلفى 2: 608 ح29 عن إرشاد القلوب للديلمي 1: 351، وفي مستدرك الوسائل 13: 124، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ذ ح 14962 عن عوالي اللئالي 4: 69 ذ ح 31 نحوه.
(الصفحة 190)
المقام الأوّل : معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم; فإنّها حرام بلا ريب ولا إشكال ، ويدلّ عليه الأدلة الأربعة ; فمن الكتاب: قوله ـ تعالى ـ : {تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ}(1) بناءً على ما تقدّم(2) في مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً; من أنّ المراد بالتعاون في الآية هي الإعانة، كما في كثير من الاستعمالات العرفيّة، كالتيامن والتياسر في الصلاة، والتكامل في العلوم والصنائع، والتضامن في بعض المؤسّسات . وقد ورد تفسيره بها في اللغة وفي كتب التفاسير.
وعرفت(3) عبارة المحقّق الأردبيلي في تفسير الآية ، كما أنّا ذكرنا(4) أنّ حمل النهي في الآية على التنزيه ـ كما عن بعض محشّي المكاسب ـ في غير محلّه .
نعم ، قدّمنا(5) الاحتمالات الستّة في معنى الإعانة، ومحلّ الكلام في المقام يصدق عليه الإعانة قطعاً، فالآية الشريفة أعظم دليل على الحرمة في المقام .
ومنه أيضاً قوله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَـلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(6) ; بناءً على كون المحرّم هو الميل إليهم لأجل هذه الجهة، فتدلّ على حرمة المعاونة لهم بطريق أولى . وأمّا بناءً على كون المراد هو الاعتماد إليهم في فعل الظلم وصدوره من الشخص، فهي أجنبيّة عن المقام .
- (1) سورة المائدة 5: 2.
- (2) في ص: 93 ـ 95 و 108 ـ 115.
- (3) في ص: 109 ـ 110.
- (4) في ص: 93 ـ 94.
- (5) في ص: 109 ـ 111.
- (6) سورة هود 11: 113.
(الصفحة 191)
ومن السنّة: روايات كثيرة أورد منها روايتين في المتن، حكاهما صاحب الوسائل عن كتاب ورّام بن أبي فراس، وفي الثانية عطف «وأشباه الظلمة» على «أعوان الظلمة» .
ومن الإجماع: أنّه لا خلاف في ذلك بين جميع المسلمين فضلاً عن علماء الشيعة (1). نعم ، الظاهر أنّه لا أصالة لهذا الإجماع بعد وضوح مستند المجمعين، وثبوت الأدلّة الاُخرى الواضحة الظاهرة .
ومن العقل: وضوح حكم العقل بقبح إعانة الظالم في ظلمه، كحكمه بقبح أصل الظلم . نعم ، القدر المسلّم منه هي المعاونة لهم في الظلم . وأمّا المعاونة لهم في محرّم آخر فالعقل لا يحكم بذلك، لا بالنسبة إلى الظالم ولا بالنسبة إلى غيره ، فقوله في المتن في ظلمهم، بل في كلّ محرّم لابدّ للاستناد إليه بغير حكم العقل; كالنهي عن التعاون على الإثم، وفي هذه الصورة لا يختصّ بالظالم، بل يعمّ كلّ مرتكب للإثم ، فتدبّر .
المقام الثاني : معونة الظالمين في الأعمال المباحة غير المحرّمة، كالخياطة لهم، والبناية، والجنازة، وأمثال ذلك ، ومقتضى القاعدة في هذا المقام الجواز ; لعدم جريان شيء من الأدلّة الأربعة المتقدّمة في المقام الأوّل هنا، خصوصاً آية النهي عن التعاون على الإثم والعدوان ; لأنّ المفروض كون المعان عليه غير محرّم، وسياق الكلام في الرواية الاُولى المذكورة في المتن يشهد بكون المراد هو إعانة الظالم في جهة ظلمه وإن كان الإطلاق ربما يتوهّم منه الخلاف .
- (1) رياض المسائل 8 : 79، مفتاح الكرامة 12: 201، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 52، مصباح الفقاهة 1: 654 ـ 655.
(الصفحة 192)
وبالجملة: لا ريب في أنّ مقتضى القاعدة هنا الجواز ، إلاّ أنّ هنا روايات يستدلّ بها على المنع في هذا المقام أيضاً، مثل :
موثّقة السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواةً، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم(1) .
وفيه: أنّ أعوان الظلمة مستثنى من الجواز في هذا المقام كما سيأتي أدلّته ، وظاهر أنّ قوله(صلى الله عليه وآله) : «ومن لاق لهم دواةً » إلخ ; راجع إلى جهة ظلمه والإعانة عليه في هذا الأمر ، فلا دلالة لها على حرمة الإعانة للظالم مطلقاً .
وحسنة يونس بن يعقوب قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : لا تعنهم على بناء مسجد(2) .
والظاهر أنّ المراد هو النهي عن إعانتهم على بناء المسجد لأجل كونه ازدياداً في شوكتهم وعظمتهم، وهذا الأمر أيضاً من المستثنى في هذا المقام كما سيأتي .
ورواية محمّد بن عذافر، عن أبيه قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ قال : فوجم أبي، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) لمّا رأى ما أصابه : أي عذافر إنّي إنّما خوّفتك بما
- (1) عقاب الأعمال: 309 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح11، و بحار الأنوار 75: 372 ح17.
- وفي ص380 ضمن ح41 ومستدرك الوسائل 13: 123، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14960 عن النوادر للراوندي: 158 ح234.
- (2) تهذيب الأحكام 6: 338 ح941، وعنه وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح8 .