(الصفحة 233)
ويستفاد من مثل الرواية الثانية أمران :
أحدهما : اختصاص الكدّ والتعب بما إذا كان الرجل معسراً ، وأمّا لو فرض كونه موسراً لأجل الإرث وغيره فلا مجال لكدّه وتعبه .
ثانيهما : أنّ ذكر العيال ليس له مفهوم وإن قلنا بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة; لأنّا قائلون بعدم ثبوت المفهوم مطلقاً، خصوصاً مفهوم اللقب كما في المقام ، فإذا لم يكن للرجل عيال أصلاً ولا يكون موسراً يثبت في حقّه هذا التشبيه، كما لايخفى .
وفي رواية معلّى بن خنيس، قال : سأل أبو عبدالله (عليه السلام) عن رجل وأنا عنده؟ فقيل أصابته الحاجة ، قال : فما يصنع اليوم؟ قيل : في البيت يعبد ربّه ، قال : فمن أين قوته؟ قيل : من عند بعض إخوانه ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : والله للذي يقوته أشدّ عبادة منه(1) .
وأمّا ما ورد في الحثّ والترغيب على التجارة، فهي الروايات الكثيرة الدالّة أكثرها على أنّ «تسعة أعشار الرزق في التجارة»:
مثل رواية روح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : تسعة أعشار الرزق في التجارة(2) .
ورواية عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : البركة عشرة أجزاء : تسعة أعشارها في التجارة، والعشر الباقي في الجلود ، قال
- (1) الكافي 5: 87 ح4 ، تهذيب الأحكام 6: 324 ح889 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 25، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها ب5 ح3 والوافي 17: 22 ح16790.
- (2) الفقيه 3: 147 ح647، وعنه وسائل الشيعة 17: 10، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها ب1 ح3.
- وفي مستدرك الوسائل 13: 9 ح14573 عن روض الجِنان ورَوحُ الجَنان في تفسير القرآن، المشهور بـ «تفسير الشيخ أبو الفتوح الرازي» 4: 63.
(الصفحة 234)
الصدوق فيما حكي عنه: يعني بالجلود الغنم(1) .
ومثلها:رواية زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)(2) .
وأمّا الروايات الواردة في الزراعة واقتناء الغنم والبقر، فليطلب من محالّها; وهي زكاة الأنعام الثلاثة(3) وكتاب المزارعة(4) .
وأمّا ما ورد من النهي عن إكثار الإبل(5)، فالظاهر ـ بعد وضوح كون النهي محمولاً على الكراهة وغير باق على ظاهره التي هي الحرمة ـ أنّ علّة النهي على ما يخطر بالبال، إمّا كون إكثاره موجباً لطمع سلاطين الجور الحاكمين في أزمنة صدور الروايات ولو للاستئجار في طريق الحجّ، كما مرّ في قصّة صفوان الجمّال مع هارون(6) ، وإمّا كونه بمرئى ومنظر من الناس نوعاً ، وإمّا لأجل قلّة منفعته بالإضافة إلى البقر والغنم ، وإمّا لغير ما ذكر ممّا لا نعرفه .
ثمّ إنّه لا ينبغي الاغترار بظاهر الروايات الدالّة على أنّ «تسعة أعشار الرزق في التجارة» بالإضافة إلى الطلاّب والمشتغلين في الحوزات العلميّة المرتزقين من الوجوه الشرعيّة; نظراً إلى ما يخطر بالبال في أوّل الحال من أنّ مفادّها أنّه عند
- (1) الخصال: 445 ح44، وعنه وسائل الشيعة 17: 10، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها ب1 ح4، وبحارالأنوار 64: 118 ح1 وج100: 5 ح13.
- (2) الخصال: 446 ح45، وعنه وسائل الشيعة 17: 11، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها ح5، وبحار الأنوار 64: 118 ملحق ح1.
- (3) وسائل الشيعة 9: 118، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الأنعام ب7.
- (4) وسائل الشيعة 17: 41 ـ 42، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها ب10 وج19: 32 ـ 36، كتاب المزارعة والمساقاة ب3.
- (5) وسائل الشيعة 11: 501 ـ 502، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدوابّ ب24 وص537 ـ 540 ب48.
- (6) في ص194.
(الصفحة 235)
دوران الأمر بين التجارة، وتحصيل العلم والمعارف والقدرة على تبليغ الإسلام يكون الترجيح مع الأوّل; فإنّه مضافاً إلى أنّ التحصيل في الحوزات العلميّة واجب كفائيّ، بل عينيّ بالنسبة إلى بعضهم ، نقول :
إنّ الدفاع عن حريم الإسلام الذي هو التشيّع بمعناه الواقعي في هذا الزمان لعلّه كان أوجب من الأزمنة السالفة والأعصار المتقدّمة، خصوصاً مع ملاحظة أمرين:
هما وجود الأدوات والوسائل الحديثة; مثل «الانترنيت» وما يسمّى في الفارسية بـ «ماهواره»، في حال كون المرتبطين بها يذعنون بسوء تأثيرهما، خصوصاً بالنسبة إلى الشباب المستغرقين في بحار الشهوات، وغير الراسخين في العقائد الحقّة الصحيحة، واشتمالها على إلقاء الأفكار الباطلة والعقائد الفاسدة بأنحاء مختلفة، وفي جميع الاُمور المعنويّة مضافاً إلى المسائل السياسيّة المنافية للثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، التي أسّسها الإمام الماتن قدّس سرّه الشريف مع تضحيات كثيرة ومشقّات شديدة ـ هذا أوّلا.
وثانياً : انحصار المدافعين عن حريم التشيّع بهذه الطائفة; فإنّ غيرهم إمّا أن يكونوا غير منقادين، وإمّا أن يكونوا مهاجمين على التشيّع من طرق مختلفة، خصوصاً بالنسبة إلى فاطمة سلام الله عليها، التي هي محور التشيّع واُمّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، وأوّل شهيدة هذا الطريق ; فإنّه مع ملاحظة الأمرين المذكورين، هل يسوغ للطلاّب أو لمن له أهليّة ذلك أن تكون مرجّحة للتجارة ومثلها على الاشتغال في الحوزات العلميّة وتحصيل المعارف الإسلامية مع التحفّظ على الشرائط والعمل بالوظيفة والارتزاق من الوجوه الشرعيّة ، وإنّي لا أظنّ احتمال ذلك من أحد أصلاً، فضلاً عن الترجيح .
(الصفحة 236)
مسألة 21 : يجب على كلّ من يباشر التجارة وسائر أنواع التكسّب تعلّم أحكامها والمسائل المتعلِّقة بها ليعرف صحيحها عن فاسدها، ويسلم من الربا ، والقدر اللازم أن يكون عالماً ـ ولو عن تقليد ـ بحكم التجارة والمعاملة التي يوقعها حين إيقاعها، بل ولو بعد إيقاعها إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد فقط ، وأمّا إذا اشتبه حكمها من جهة الحرمة والحلّية ـ لا من جهة مجرّد الصحّة والفساد ـ يجب الاجتناب عنها، كموارد الشكّ في أنّ المعاملة ربويّة، بناءً على حرمة نفس المعاملة أيضاً، كما هو كذلك على الأحوط1.
1 ـ كما أنّه يجب على كلّ من يباشر التجارة وسائر أنواع التكسّب، تعلّم الأحكام الوجوبيّة العباديّة التي قد تتحقّق في ضمنها، كالخمس بالإضافة إلى ما يرتبط به ممّا يفضل من الأرباح عن مؤونة السنة وسائر الاُمور المتعلّقة له إذا كان كسباً له، كالمعدن والكنز وغيرهما، وكالزكاة فيما إذا تحقّق النصاب في ملكه وكان كسبه متعلِّقاً للزكاة، كالحنطة والشعير والغنم والإبل وغيرهما .
كذلك يجب عليه تعلّم أحكام نفس التجارة وسائر أنواع التكسّب من حيث الصحّة والفساد، ومن حيث الحلّية والحرمة كما في الربا، بناءً على ثبوت الحرمة التكليفيّة للمعاملة الربويّة أيضاً ، والدليل على وجوب التعلّم في الأمرين واحد ، مضافاً إلى ما اشتهر في المقام عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله : الفقه ثمّ المتجر(1) ، فلا إشكال في لزوم التعلّم ليعرف الصحيح من الفاسد ويسلم من الرِّبا .
- (1) الكافي 5: 150 ح1، الفقيه 3: 121 ح519، تهذيب الأحكام 7: 6 ح16، وعنها وسائل الشيعة 17: 381، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب1 ح1.
- وفي بحار الأنوار 103: 117 ح16 عن روضة الواعظين: 465.
- وفي مستدرك الوسائل 13: 248 ح15265 عن عوالي اللئالي 3: 201 ح31.
(الصفحة 237)
لكنّ القدر اللازم كما في المتن أنّه إذا كان الأمر دائراً بين الصحّة والفساد من دون أن يكون هناك حكم تكليفيّ متعلّق بنفس المعاملة، كما إذا دار الأمر بين كون المعاملة واجدة لشرط التأثير، أو فاقدة له ، فاللاّزم أن يكون عالماً بحكم المعاملة ولو عن تقليد ، إمّا حين إيقاعها، وإمّا بعد الإيقاع من دون ترتيب الأثر عليها; لجريان أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر، ولا مجال لجريان أصالة الصحّة، أمّا بالإضافة إلى صورة عدم الإيقاع بعد فواضح .
وأمّا بالإضافة إلى صورة الإيقاع; فلأنّ مجرى أصالة الصحّة إنّما هي الشبهات الموضوعيّة، دون الشبهات الحكميّة المفروضة في المقام ، فإذا شككنا مثلاً في أنّ العقد الواقع هل يكون إيجابه مقدّماً على القبول أم لا ؟ وفرض لزوم تأخّر القبول مطلقاً، فأصالة الصحّة تحكم بصحّة العقد الواقع . وأمّا إذا شككنا في أنّ العقد الواقع مع غير الصيغة العربيّة قطعاً، وشككنا في اعتبار العربيّة مثلاً، فلا مجال لإجراء أصالة الصحّة والحكم بها، كما لايخفى .
وإذا كان الأمر دائراً بين الحلّية والحرمة مضافاً إلى الصحّة والفساد، فاللازم أن يكون عالماً بحكم المعاملة حين الإيقاع، ولا مجال لإجراء أصالة الحلّية; فإنّها وإن كانت جارية في الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة معاً ، فكما أنّه يجري فيما إذا دار أمر مايع بين أن يكون خلاًّ أو خمراً ، كذلك يجري في مثل شرب التتن من الشبهات الحكميّة، كما في المثال المعروف في باب أصالة البراءة من علم الاُصول(1).
والوجه في عدم جريانها في المقام ولزوم الاجتناب عن المعاملة التي يريد إيقاعها مع الشكّ في حلّيتها، هو أنّ جريان أصالة الحلّية ومثلها إنّما هو فيما إذا
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 46 ـ 49 وغيره.