(الصفحة 128)
المقام الأوّل: في أصل اعتبار التساوي في الدين ، بمعنى عدم قتل المسلم بالكافر لا بنحو الإطلاق ، كما أنّه سيأتي جواز قتل اليهودي بالنصراني وبالعكس ، ونفى وجدان خلاف معتدّ به بين الإمامية فيه في الجواهر بل الإجماع بقسميه عليه(1) ، والمحكيّ عن مقنع الصدوق أنّه سوّى بين المسلم والذمّي في أنّ الوليّ إن شاء اقتصّ من قاتله المسلم بعد ردّ فاضل الدية ، وإن شاء أخذ الدية(2) ، كما أنّ المحكيّ عن أبي يوسف من العامة الحكم بجواز قتل المسلم بالكافر(3). وقد قال فيه الشاعر مثل قوله:
- جار على الدين أبو يوسف
جار على الدين أبو يوسف
-
بقتله المسلم بالكافر(4)
بقتله المسلم بالكافر(4)
وربّما يستدلّ لذلك بقوله تعالى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ للكافِرِينَ عَلى الْمُؤْمِنينَ سَبِيلاً}(5) نظراً إلى دلالته على نفي السبيل لوليّ الكافر المقتول إن كان مثله كافراً ، والقصاص سبيل بل أيّ سبيل ، ويتمّ بالنسبة إلى الوليّ المسلم بعدم القول بالفصل .
وأمّا الروايات ، فالتتبع فيها يقضي بأنّها على طوائف ثلاث:
الأولى: ما تدلّ على أنّه لا يقاد مسلم بذمّي مطلقاً ، من دون تفصيل بين صورة الاعتياد وعدمه .
مثل : صحيحة محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يقاد مسلم بذمّي في القتل ولا في الجراحات ، ولكن يؤخذ من المسلم جنايته للذمّي على قدر دية
- (1) جواهر الكلام: 42 / 150 .
- (2) المقنع: 534 .
- (3) ذهب أبو حنيفة وأصحابه منهم : أبو يوسف إلى أنّ المسلم يقتل بالذمّي ، وزاد أبو يوسف أنّه يقتل بالمستأمن أيضاً . الخلاف: 5 / 146 مسألة 2 ، المبسوط للسرخسي: 26 / 131 ، المغني لابن قدامة: 9/341 ـ 342 .
- (4) راجع جواهر الكلام: 42 / 150 .
- (5) النساء 4: 141 .
(الصفحة 129)
الذمّي ثمانمائة درهم(1) .
الثانية: ما تدلّ بظاهرها على ثبوت القود مطلقاً .
مثل : رواية ابن مسكان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا قتل المسلم يهوديّاً أو نصرانياً أو مجوسياً فأرادوا أن يقيدوا ، ردّوا فضل دية المسلم وأقادوه(2) .
وموثقة سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل قتل رجلاً من أهل الذمّة ، فقال: هذا حديث شديد لايحتمله الناس، ولكن يعطي الذمّي دية المسلم ، ثم يقتل به المسلم(3).
ورواية أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا قتل المسلم النصراني فأراد أهل النصراني أن يقتلوه قتلوه ، وأدّوا فضل ما بين الديتين(4) .
وروايته الأخرى قال: سألته عن ذمّي قطع يد مسلم قال: تقطع يده إن شاء أولياؤه ويأخذون فضل ما بين الديتين ، وإن قطع المسلم يد المعاهد خيّر أولياء المعاهد ، فإن شاؤوا أخذوا دية يده ، وإن شاؤوا قطعوا يد المسلم وأدّوا إليه فضل ما بين الديتين ، وإذا قتله المسلم صنع كذلك(5) .
الثالثة: ما تدلّ على التفصيل في القصاص بين صورة الاعتياد وعدمه .
مثل ما رواه جعفر بن بشير ، عن إسماعيل بن الفضل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: رجل قتل رجلاً من أهل الذمّة ، قال: لا يقتل به إلاّ أن يكون متعوِّداً للقتل.
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 80 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح5 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 79 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح2 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 79 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح3 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 80 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح4 .
- (5) وسائل الشيعة: 19 / 138 ، أبواب قصاص الطرف ب 22 ح1 .
(الصفحة 130)
وروى مثله محمّد بن الفضل (الفضيل ـ ظ) ، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (1) . وعليه فيتحقّق التعدّد في الرواية لاختلاف الراوي والمرويّ عنه فيهما .
وما رواه أحمد بن الحسن ، عن أبان ، عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة؟ قال: لا إلاّ أن يكون معوّداً لقتلهم ، فيقتل وهو صاغر(2) . والظاهر اتحادها مع الرواية الأولى وعدم كونها رواية أُخرى غيرها ، لاتّحاد الرّاوي والمرويّ عنه فيهما .
وما رواه علي بن الحكم وغيره ، عن أبان بن عثمان ، عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دماء المجوس واليهود والنصارى هل عليهم وعلى من قتلهم شيء إذا غشّوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم؟ قال: لا إلاّ أن يكون متعوّداً لقتلهم . قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا إلاّ أن يكون معتاداً لذلك ، لا يدع قتلهم ، فيقتل وهو صاغر(3) . والظاهر اتّحادها مع الأوليين وعدم كونها ثلاث روايات كما في الوسائل والجواهر .
ثمَّ الظاهر وجود الاضطراب في متن هذه الرواية ; لأنّه مضافاً إلى ظهوره في كون السؤالين متصلين ، ووقوع الثاني عقيب الجواب عن السؤال الأوّل بلا فصل ،مع أنّه ليس أمراً مغايراً للأوّل خصوصاً مع اتّحاد الجواب في كليهما ، لظهور الأوّل أيضاً في ثبوت القتل في صورة الاعتياد .
ودعوى كون محطّ السؤال في الأوّل هو أهل الذمّة مع إخلالهم بشرائط الذمّة كما هو مفاد قوله: «إذا غشّوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم» ، وفي الثاني هم مع
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 80 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح7 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 80 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح6 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 79 ، أبواب القصاص في النفس ب 47 ح1 .
(الصفحة 131)
العمل بشرائطها مدفوعة بأنّ عطف أهل الكتاب على أهل الذمّة في الثاني ينافي ذلك ، كما أنّه عليه كان اللاّزم التصريح بالعمل بشرائط الذمّة ، كما أنّه وقع في الأوّل التصريح بخلافه إنّ احتمال وجود شيء وثبوته على المقتولين من المجوس واليهود والنصارى ممّا لا مجال له ، واحتمال ثبوته عليهم بلحاظ الإخلال بشرائط الذمّة لا يرتبط بثبوته عليهم بلحاظ كونهم مقتولين ، كما يدلّ عليه قوله: «عن دماء المجوس» ، وكما يدلّ عليه قوله: «وعلى من قتلهم شيء» ، فالظاهر حينئذ وجود الإضطراب في الرواية .
ثمّ إنّ مقتضى الجمع بين الطوائف الثلاث جعل الطائفة الثالثة شاهدة للجمع بين الأوّلتين ، والحكم بثبوت التفصيل بين صورة الاعتياد وعدمه ، ومع وجود الجمع الدلالي بهذه الكيفية لا يبقى مجال لمثل الحمل على التقية .
المقام الثاني: في أنّ القتل في صورة الاعتياد هل يكون بعنوان القصاص؟ كما هو المحكيّ عن المرتضى(1) والشيخين(2) وابني حمزة(3) وسعيد(4) وسلار(5) والشهيدين(6) ، أو بعنوان الحدّ ، بمعنى ثبوت التعزير قبل الاعتياد ، والحدّ بعده ، كما عن أبي علي(7) والتقي(8) ، بل عن
- (1) الإنتصار: 542 مسألة 302 .
- (2) المقنعة: 739 ، النهاية: 749 .
- (3) الوسيلة: 433 .
- (4) الجامع للشرائع: 572 .
- (5) المراسم العلوية: 238 .
- (6) اللمعة الدمشقية: 176 ، الروضة البهية: 10 / 57 ـ 58 .
- (7) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9 / 335 مسألة 32 .
- (8) الكافي في الفقه: 384 .
(الصفحة 132)
المختلف(1) وظاهر الغنية(2) ، أو بعنوان عقوبة المخالفة مع الإمام كما عن الفقيه(3) .
وتظهر الثمرة بين الأولين في الخصوصيات الموجودة في القصاص من السقوط بالعوف ، وعدم الاستيفاء إلاّ بعد مطالبة الوليّ ، ولزوم ردّ الفضل بين الديتين . فعلى الأوّل تثبت هذه الخصوصيات دون الثاني . نعم حكي عن المحقّق الثاني في الحاشية(4) والروضة(5) احتمال لزوم ردّ الفضل مع كون القتل حدّاً ، ولكنّه غير ظاهر الوجه .
والظاهر إنّ جميع الروايات المتقدّمة ما عدا رواية سماعة ـ التي سيأتي البحث فيها ـ ظاهرة في القصاص باعتبار التعبير بمثل قوله: «المسلم هل يقتل بأهل الذمّة» الظاهر في كون قتله بإزاء المقتول وبعوضه ، وواقعاً في مقابله ، وبعبارة أُخرى ظاهر الباء كونها بمعنى المقابلة لا السببيّة ، والمقابلة متحقّقة في القصاص فقط ، أو باعتبار التعبير بالقود الذي هو بمعنى القصاص ، أو باعتبار الحكم بلزوم ردّ فضل دية المسلم ، أو باعتبار تعليق جواز القتل على إرادة أولياء المقتول وأهله ، الذي قد عرفت أنّه من خصوصيات القصاص .
وبالجملة: لا مجال للترديد في أنّ ظاهر الروايات هو ما عليه المشهور .
وأمّا رواية سماعة ، فظاهرها هو كون القتل بعنوان الحدّ ، للحكم فيها بلزوم الإعطاء إلى الذمّي ـ أي وليّه ـ دية المسلم التي هي دية كاملة . وفي الحقيقة يكون
- (1) مختلف الشيعة: 9 / 335 .
- (2) غنية النزوع: 407 .
- (3) الفقيه: 4 / 102 .
- (4) حكى عنه في جواهر الكلام: 42 / 155 .
- (5) الروضة البهية: 10 / 57 .