(الصفحة 175)
ولكنّها ـ على تقدير كون المراد من قوله: «فتناول» هو توقف الدفع على الضرب والقتل ، وإن كان يبعّد ذلك أنّه بعد صيرورة السيف في يد العاقل لا يتحقّق التوقف نوعاً ، كما لا يخفى ـ محمولة على كون المراد من الامام هو بيت المال ، خصوصاً مع عدم قائل بما هو ظاهره .
ثانيتهما: الأخبار المتعدّدة الواردة في مطلق الدفاع عن النفس ، الظاهرة في أنّه إذا توقّف الدفاع على قتل المهاجم لا يكون في هذا القتل شيء أصلاً ، ويكون دمه هدراً ، فتنافي مع رواية أبي بصير في المقام .
والجواب: أنّ تلك الأخبار لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن تكون مطلقة شاملة لما إذا كان الحامل والمهاجم مجنوناً ، وإمّا أن لا تكون شاملة للمقام ، فعلى التقدير الأوّل تكون صحيحة أبي بصير مقيِّدة لها وموجبة لإخراج المجنون ، وعلى التقدير الثاني لا ارتباط بين المقام وبين تلك الروايات ، لاختلافهما من حيث المورد .
ودعوى: أنّه على تقدير الاختصاص بغير المجنون ، يكون شمول الحكم له بطريق أولى ، لأنّه إذا كان دم العاقل المهاجم هدراً ، فدم المجنون كذلك بطريق أولى ، لعدم تحقّق القصاص فيه دونه .
مدفوعة: بأنّه يمكن أن يكون للعقل مدخلية في كون دم المهاجم هدراً ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الغرض عدم تكرّر التهاجم من غيره ، وهذه الجهة غير متحقِّقة في المجنون ، ولأجله تحقّق الفرق بين قتل العمد وقتل الخطأ مثلاً في الحكم مع اشتراكهما في تحقّق القتل وصدوره من القاتل . وعليه فيمكن أن لا يكون دم المجنون المهاجم هدراً مطلقاً ، بل يلزم أن يعطى ديته من بيت مال المسلمين ، فالأولوية ممنوعة جدّاً ، والتساوي فاقد للدليل ، فلا محيص عن الأخذ بالصحيحة في المقام .
(الصفحة 176)مسألة 6 ـ في ثبوت القود على السكران الآثم في شرب المسكر إن خرج به عن العمد والاختيار تردّد ، والأقرب الأحوط عدم القود ، نعم لو شكّ في زوال العمد والاختيار منه يلحق بالعامد ، وكذا الحال في كلّ ما يسلب العمد والاختيار ، فلو فرض أنّ في البنج وشرب المرقد حصول ذلك يلحق بالسكران ، ومع الشك يعمل معه معاملة العمد ، ولو كان السكر ونحوه من غير إثم فلا شبهة في عدم القود ، ولا قود على النائم والمغمى عليه ، وفي الأعمى تردّد1..
1 ـ في هذه المسألة فروع:
الفرع الأوّل: هل يثبت القود على السكران القاتل أم لا؟ والمفروض هنا ثبوت قيدين: كونه آثماً في شربه ، وخروجه بالسكر عن العمد والاختيار في حال صدور القتل . وقد تردّد فيه في المتن أوّلاً ، ثم جعل الأقرب العدم ، تبعاً للعلاّمة في الإرشاد(1) والقواعد(2) ، ولصاحب المسالك(3) ، ولكن جعل المحقّق في الشرائع(4)الثبوت أشبه ، وفاقاً للأكثر ، بل ربّما يشعر أو يصرّح بعض الكتب بالإجماع عليه(5) ، واللاّزم التكلّم فيه في مقامين:
الأوّل: في أنّ مقتضى القاعدة بملاحظة الضابطة الأصلية في باب القصاص هل هو ثبوت القصاص ، أو عدمه ، أو التفصيل بين الموارد مع قطع النظر عمّا ورد في
- (1) إرشاد الأذهان: 2 / 202 ـ 203 .
- (2) قواعد الأحكام: 2 / 292 .
- (3) مسالك الأفهام: 15 / 165 ـ 166 ، وقال: وهو اختيار الأكثر .
- (4) شرائع الإسلام: 4 / 990 .
- (5) حكى في جواهر الكلام: 42 / 186 الإشعار بالاجماع عن غاية المراد : 366 والتصريح به عن إيضاح الفوائد: 4 / 601 .
(الصفحة 177)
المقام من النصّ ؟ فنقول:
الظاهر هو التفصيل بين من يعلم بأنّ شربه للمسكر يترتّب عليه القتل نوعاً ، وبين من لا يعلم بذلك ، لأنّ صدور القتل وإن كان في حال زوال الاختيار والخروج عن العمد ، إلاّ أنّ ارتكابه للشرب عن عمد واختيار وتوجّه والتفات مع العلم بترتّب القتل عليه نوعاً بعد تحقّق السكر يجعل القتل قتلاً عمدياً عند العقلاء . وبعبارة أُخرى لا ينفكّ التعمّد للارتكاب مع العلم بالترتّب عن التعمّد للقتل ، فإنّ من علم بأنّه إذا ذهب إلى مجلس فلاني ودخل فيه يترتّب على دخوله تحقّق المعصية وصدور عمل محرَّم اضطراراً أو إكراهاً لا يكون مع التعمّد في الذهاب واختيار الدخول مع العلم بذلك مضطرّاً إلى المعصية أو مكرَهاً عليها ، بل هي معصية عمدية موجبة لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة ، نعم مع عدم العلم بذلك أو عدم الالتفات إليه لا ينبغي المناقشة في عدم الاستحقاق ، لعدم تحقّق المعصية العمديّة .
وليس صدق قتل العمد في الفرض الأوّل لأجل كونه آثماً في شرب المسكر ، بل لأجل صدوره منه اختياراً ، وعليه فلو فرض إباحة الشرب مثلاً يتحقّق التعمّد في القتل أيضاً ، كما في مثال الذهاب إلى المجلس ، حيث لا يكون نفس الذهاب إليه محرَّماً ، نعم في صورة الوجوب في مثل المقام لابدّ من ملاحظة الأهمّ من الحرمة والوجوب ، كما لا يخفى .
الثاني: في ملاحظة مقتضى النصّ ، فنقول : قد ورد في المقام روايتان:
إحداهما: رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسجنهم ، فمات منهم رجلان وبقي رجلان ، فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين اقدهما
(الصفحة 178)
بصاحبينا ، فقال للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقيدهما ، فقال علي (عليه السلام) للقوم: فلعلّ ذينك اللّذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه ، قالوا: لا ندري ، فقال علي (عليه السلام) : بل أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة ، وآخذ دية جراحة الباقيين من دية المقتولين(1) . والظاهر أنّ قوله (عليه السلام) : «فلعلّ ذينك» يستفاد منه مفروغية ثبوت القود عليهما مع العلم بصدور القتل منهما ، وعليه فنفي الحكم بالقود إنّما هو لأجل الشكّ في أصل صدور القتل منهما ، مع لزوم إحرازه في مقام القصاص ، ومقتضاه أنّه لا فرق في ثبوت القود مع العلم بالصدور بين الصورتين اللّتين كان مقتضى القاعدة هو التفصيل بينهما .
والعجب من بعض الأعلام حيث استدلّ بالرواية على التفصيل الذي هو مقتضى القاعدة ، وقال في تقريبه: إنّه لابدّ من حملها على أنّ شربهم المسكر كان في معرض التباعج بالسكاكين المؤدّي إلى القتل عادة ، بقرينة أنّه فرّع فيها ثبوت القود على فرض العلم بأنّ الباقيين قتلاهما ، وعدم ثبوته على فرض عدم العلم بذلك واحتمال أنّ كلاًّ منهما قتل صاحبه(2) .
ومن الواضح أنّه مصادرة على المطلوب . وأمّا ما جعله مؤيِّداً لما أفاده من استفادة الاستمرار والتكرر من التعبير بقوله (عليه السلام) : «كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون» نظراً إلى ظهوره في ترتّب التباعج نوعاً . فيدفعه أنّه لا مجال لهذه الاستفادة في خصوص المقام ، لظهور الرواية في أنّ الرفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مرّة واحدة ، وهي المرّة الواقعة فيها هذه القصّة ، ولو كان العمل متكرّراً والرفع مرّة
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 173 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح 2 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 81 مسألة 87 .
(الصفحة 179)
لكان اللاّزم التقييد بمثل المرّة الأخيرة . مضافاً إلى أنّه مع وحدة القوم المركّب من أربعة نفرات لا معنى لتكرّر التباعج المؤدي إلى القتل ، فبقاؤهم في المرّة التي تحقّق بعدها الرفع دليل على عدم تحقّق القتل في المرّات السابقة ، كما لايخفى .
فالإنصاف ظهور الرواية في ثبوت القصاص في صورة العلم بصدور القتل من الباقيين ، من دون فرق بين الصورتين أصلاً .
ثانيتهما: صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في أربعة شربوا مسكراً ، فأخذ بعضهم على بعض السلاح فاقتتلوا ، فقتل اثنان وجرح اثنان ، فأمر المجروحين فضرب كلّ واحد منهما ثمانين جلدة ، وقضى بدية المقتولين على المجروحين ، وأمر أن تقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية ، فإن مات المجروحان فليس على أحد من أولياء المقتولين شيء(1) .
والظاهر أنّ مورد هذه الرواية والرواية المتقدّمة واحد ، بمعنى أنّه كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) قصّة واحدة مرفوعة إليه ، وهي اشتراك أربعة رجال في شرب المسكر ، والأخذ بعده بالسلاح والسكين ، وتحقّق الاقتتال المؤدّي إلى قتل اثنين وجرح اثنين ، وهذه القصّة محكيّة في الرواية السابقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وفي هذه الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وعليه فهو أيضاً شاهد على بطلان التأييد المتقدّم الذي ذكره بعض الأعلام ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ هذه الرواية لا تعارض الرواية المتقدّمة فيما يرجع إلى القصاص الّذي هو مورد البحث في المقام ، لظهور الاُولى كما عرفت في ثبوت القصاص مع تعيّن القاتل وتشخّصه وإن كان سكراناً . ولا ظهور في هذه الرواية في خلافه ، لعدم التعرّض
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 172 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح1 .