(الصفحة 180)
لهذه الجهة . وظهورها في عدم القصاص في المورد إنّما هو لأجل عدم تعيّن القاتل في مثل المورد ، كما يقتضيه طبع القصة ، فإنّه مع تحقّق القتل في مثله لا طريق إلى تشخيص القاتل مع عدم حضور الشاهد، بل ومع الحضور نوعاً لأنّه لا يمكن التشخيص كذلك . ومن المعلوم أنّ رفع الخصومة كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) مبنيّاً على الموازين والضوابط المعمولة ، لا على الاعتماد على مثل علم الغيب . وعليه فعدم الحكم بالقصاص في المورد لأجل عدم وضوح القاتل وعدم الطريق إلى تعيينه، فلا ينافي ما دلّ على القصاص مع العلم به وتعيّنه ، كما هو الظاهر من الرواية الأولى .
إلاّ أن يُقال: إنّ الحكم بثبوت دية المقتولين على خصوص المجروحين كما في الرواية لا يستقيم إلاّ مع العلم بصدور القتل منهما ، لأنّه لا مجال له بدون العلم به ، وعليه فتدلّ الرواية على نفي القصاص مع تعيّن القاتل ، فتعارض مع الرواية الاُولى .
ولكنّه مدفوع بأنّه لا إشعار في الرواية بهذه الجهة ، وقد عرفت أنّ مقتضى طبع القصّة هو الإبهام وعدم التعيّن ، خصوصاً مع صراحة النقل الأوّل فيه ، غاية الأمر أنّ الحكم بثبوت الدية على المجروحين حكم تعبّدي مغاير للرواية الأولى الدالّة على ثبوت الدية على قبائل الأربعة ، ولا مجال لاستفادة ما ذكر منه ، فالإنصاف أنّه لا تعارض بين الروايتين فيما يرجع إلى المقام ، وهو ثبوت القصاص على السكران القاتل .
وبعد ذلك يقع الكلام في ترجيح القول بعدم القصاص كما في المتن ، فهل يكون منشأه استفادة العدم من الصحيحة وترجيحها على رواية السكوني ، لعدم بلوغها في الاعتبار إلى مرتبة الصحيحة ، بل رواية السكوني حجّة فيما لم يكن على خلافها
(الصفحة 181)
رواية معتبرة ، كما هو المحكيّ عن الشيخ (قدس سره) في العدة(1) ، ومنشأ الاستفادة ما ذكرنا من الحكم بثبوت الدية على المجروحين .
أو أنّ منشأه وجود المعارضة بين الروايتين وتساقطهما لأجل عدم ثبوت مزيّة في البين ، فاللاّزم الرجوع إلى القاعدة ، وهي تقتضي عدم ثبوت القصاص .
فإن كان المنشأ هو الأوّل فقد عرفت عدم تمامية الاستفادة المزبورة ، وإن كان المنشأ هو الثاني كما هو الظاهر من المتن فقد عرفت أنّه لا تعارض بين الروايتين أوّلاً ، وعدم كون القاعدة مقتضية لعدم القصاص ثانياً ، بل مقتضاها التفصيل ، كما مرّ في المقام الأوّل .
الفرع الثاني: السكران غير الآثم مع خروجه عن العمد والاختيار في حال صدور القتل ، والظاهر لزوم الرجوع فيه إلى القاعدة التي قد عرفت أنّ مقتضاها التفصيل بين صورة الجهل بترتّب القتل على شربه فلا يتحقّق موجب القصاص ، وبين صورة العلم به ، فاللاّزم الحكم به مع اتصاف الشرب بالإباحة ، وملاحظة الأهمّ والمهمّ مع الاتصاف بالوجوب .
ومن الواضح أنّه لا يستفاد حكم هذا الفرع من النصّ ، بعد كون مورده الشرب المحرَّم بقرينة إجراء حدّ الشرب عليه ، كما في الصحيحة المتقدّمة ، وعدم وضوح إلغاء الخصوصية بدعوى أنّ الحكم المذكور فيه هو حكم السكران القاتل ، من دون فرق بين كون الشرب محرّماً أو غيره ، كما لا يخفى .
الفرع الثالث: استعمال ما يسلب العمد والاختيار كالبنج والمرقد وغيرهما ،
- (1) عُدّة الأصول: 1 / 380 .
(الصفحة 182)
والمحكيّ عن الشيخ (قدس سره)(1) أنّه ألحقه بالسكران الذي هو مورد الرواية ، وحكم فيه بثبوت القصاص مطلقاً . وظاهر المتن عدم ثبوت القصاص كذلك لاقتضاء القاعدة له .
والحقّ ـ بعد عدم جواز التعدّي عن مورد الرواية ، خصوصاً بعد كون الحكم المذكور فيه مخالفاً للقاعدة ، ولا يكون العرف موافقاً لإلغاء الخصوصية ـ الرجوع إلى القاعدة الّتي قد عرفت اقتضاؤها التفصيل المتقدّم .
ثمّ إنّه في جميع هذه الفروض ، لو شكّ في زوال العمد والاختيار في حال صدور القتل ، يكون مقتضى استصحاب عدم الزوال وبقاء الاختيار في تلك الحال تحقّق موجب القصاص ، وهو قتل العمد فيترتّب عليه .
الفرع الرابع: القتل الصادر من النائم أو المغمى عليه ، وفي الجواهر: لا إشكال نصّاً وفتوى في أنّه لا قود على النائم ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لعدم القصد الذي يدرجه في اسم العمد ، وكونه معذوراً في سببه(2) .
والظاهر أنّه لم يرد في خصوص المسألة نصّ ، بل مراده بالنصّ هو النصوص العامّة الواردة في النائم الدالّة على معذوريته ، وعدم ترتّب حكم العمد على عمله ، وقد وقع الاختلاف بعد عدم ثبوت القصاص عليه في أنّ الدية هل يكون في ماله كما في قتل شبه العمد ، أو يكون على عاقلته كما في قتل الخطأ؟ والتحقيق موكول إلى كتاب الديّات .
الفرع الأخير: القتل الصادر من الأعمى ، وتردّد في ثبوت القصاص فيه في المتن .
- (1) المبسوط : 7 / 50 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 188 .
(الصفحة 183)
والمنشأ أنّ المسألة خلافيّة ، فالمحقّق في الشرائع استظهر ثبوت القصاص(1) ، ونسب صاحب الجواهر ذلك إلى أكثر المتأخّرين(2) ، والمحكيّ عن أبي علي(3)والشيخ(4) والصهرشتي والطبرسي(5) وابن حمزة(6) وابن البراج(7) ، بل وعن ظاهر الصدوق عدم ثبوت القصاص عليه(8) ، وعن غاية المراد نسبة هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب(9) ، ومنشأ الاختلاف وجود روايتين في المسألة في مقابل عمومات أدلّة القصاص ، لابدّ من ملاحظتهما من جهة تمامية السند والدلالة وعدمها ، ومن جهة وجود الاختلاف بينهما وعدمه ، فنقول:
الأولى: رواية محمّد الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل ضرب رأس رجل بمعول ، فسالت عيناه على خدّيه ، فوثب المضروب على ضاربه فقتله ، قال: فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : هذان متعدّيان جميعاً ، فلا أرى على الذي قتل الرجل قوداً ، لأنّه قتله حين قتله وهو أعمى ، والأعمى جنايته خطأ يلزم عاقلته ، يؤخذون بها في ثلاث سنين في كلّ سنة نجماً ، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 991 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 188 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 359 مسألة 47 .
- (4) النهاية: 760 .
- (5) حكى عنهما في مفتاح الكرامة: 11 / 32 .
- (6) الوسيلة: 455 .
- (7) المهذّب : 2 / 495 ـ 496 .
- (8) الفقيه: 4 / 93 ح271 .
- (9) غاية المراد: 367 .
(الصفحة 184)
ماله ، يؤخذ بها في ثلاث سنين ، ويرجع الأعمى على ورثة ضاربه بدية عينيه(1) .
وتضعيف سند الرواية ـ كما في المسالك(2) ـ إنّما هو على طريق الشّيخ الذي فيه محمد بن عبدالله بن هلال الذي لم يرد فيه توثيق ، بل ولا مدح ، وأمّا على طريق الصدوق الذي رواه بإسناده عن العلاء فالرواية صحيحة لا مجال للمناقشة فيها من حيث السند .
وأمّا من جهة الدّلالة ، فالظاهر أنّ محطّ النظر في السؤال إلى وقوع القتل عقيب الضرب الموجب لسيلان العينين على الخدّين ، وتحقّق العمى لا بعنوان الدفاع الذي مرجعه إلى كون غرض الضارب قتل المضروب وعدم الاكتفاء بالضرب الكذائي ، بل بعنوان العقوبة على عمله والجزاء على فعله ، بحيث لو لم يتحقّق منه ذلك لم يكن هناك أمر آخر ، فما عن المختلف(3) من حمل الرواية على قصد الدفع مخالف لظاهر السؤال ، مضافاً إلى أنّه مخالف لكثير من الأحكام المذكورة في الجواب ، مثل الحكم بكونه متعدّياً أيضاً ، وبثبوت الدّية على العاقلة أو على نفسه .
وأمّا الجواب: فالظاهر أن قوله (عليه السلام) : «والأعمى جنايته خطأ يلزم عاقلته» يكون الخبر فيه هو «خطأ» بالرفع ، والمقصود إعلام كون جناية الأعمى الصادرة في حال العمد خطأً وموضوعاً للديّة المترتّبة على قتل الخطأ ، كما في التعبيرات الواردة في الصبي والمجنون المشابهة لهذا التعبير . وأمّا احتمال كون «خطأ» منصوباً للحالية ، وجعل الخبر هي الجملة الفعلية التي بعده ، كما في المسالك(4) ، فيدفعه ـ مضافاً إلى
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 306 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 10 ح1 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 167 ـ 168 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 360 مسألة 47 .
- (4) مسالك الأفهام: 15 / 168 .