(الصفحة 18)
بعضها ، كما في مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة ، وليس المذكور في جميعها كلمة «العمد» حتى تحمل على شبه العمد ، بل الحكم بالقود الذي لا يتحقّق إلاّ بعد ثبوت موجبه الذي هو العمد محضاً ، فالترجيح مع هذا الوجه .
ثم إنّه لو فرض ثبوت التعارض وعدم إمكان الجمع لكان الترجيح مع الطائفة الأولى ، الموافقة للشهرة الفتوائية المحققة ، كما مرّت الإشارة إليه مراراً .
المورد الثالث: ما إذا قصد فعلاً يقتل به غالباً وإن لم يقصد القتل به ، وقيل : يفهم من الغنية الإجماع عليه(1) ، وهو الذي تقتضيه القاعدة ، لأنّ القصد إلى الفعل الذي يتحقّق به القتل غالباً مع التوجه والإلتفات إلى ذلك لا يكاد ينفكّ من قصد القتل ، غاية الأمر أنّه يصير القتل مقصوداً بالتبع ، والفعل يكون مقصوداً بالأصالة ، وهو لا يوجب الخروج عن عنوان العمد ، فإنّ من ضرب الغير بآلة قتّالة مع العلم بكونها كذلك يكون عند العرف قاتلاً بالقتل العمدي ، وإن كان غرضه غير القتل كامتحان الآلة ، أو امتحان رميه إيّاها ، أو غير ذلك من الأغراض .
ويدلّ عليه مضافاً إلى ما ذكرنا صحيحة الحلبي وأبي الصباح الكناني جميعاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال (قالا ـ ظ) سألناه عن رجل ضرب رجلاً بعصا فلم يقلع عنه الضرب حتى مات ، أيدفع إلى وليّ المقتول فيقتله؟ قال: نعم ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجيز عليه بالسيف(2) . ومثلها رواية موسى بن بكر(3) . ورواية سليمان بن خالد(4) .
- (1) غنية النزوع : 402 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 24 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 2 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 10 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 27 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 12 .
(الصفحة 19)
والعصا وإن لم يكن بمجرده من الآلات القتّالة ، إلاّ أنّ تكرار الضرب به وعدم قلع الضرب عنه يوجب صيرورته من هذه الآلات . ومقتضى إطلاق السؤال وترك الاستفصال أنّه لا فرق بين ما إذا كان مراد الضارب القتل أو مجرّد الضرب فقط ، وعليه فظاهر الجواب كون هذا المورد أيضاً من موارد العمد التي فيها القصاص ، والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «ولكن لا يترك يعبث به» هو عدم المعاملة مع القاتل معاملة ما صنعه بالمقتول ، بل يسرع عليه بالسيف الذي يوجب قتله من دون زجر وتمثيل . يقال: أجاز عليه ، أي أجهزه وأسرع في قتله . وعليه فالروايات المذكورة مطابقة لما تقتضيه القاعدة .
ثمّ إنّ بعض الأعلام استدلّ لكون المورد الثالث من موارد العمد بصحيحة فضل ابن عبدالملك التي رواها الصدوق عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، أنّه قال: إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد . قال: سألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفارة أهو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله؟ فقال: نعم ، قلت: رمى شاة فأصاب إنساناً ، قال: ذاك الخطأ الذي لا شكّ فيه ، عليه الدية والكفّارة(1) .
قال في تقريب الاستدلال بها: إنّها تدلّ على أنّ الضرب بالحديدة الذي يترتّب عليه القتل عادة من القتل العمدي ، وإن لم يقصد الضارب القتل ابتداء ، وأمّا مع قصد القتل فلا خصوصية للحديدة(2) .
ويرد عليه ، انّ الحديدة لا تكون من الآلات القتّالة ، لأنّ المراد بها هي الحديدة الصغيرة ، وقد جعلها في بعض الروايات المتقدّمة في رديف الحجر والعصا والوكزة ،
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 9 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 4 مسألة 1 .
(الصفحة 20)
والمراد من ضرب الرجل بها هو الضرب المقرون مع قصد القتل وإرادته ، ويدلّ عليه سؤال الراوي بعده عن الخطأ ، وأنّه هو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله الظاهر في أنّ الفرق بينه وبين العمد هو إرادة القتل فيه دونه ، وعليه فالرواية تنطبق على المورد الثاني دون الثالث .
كما أنّه استدلّ له أيضاً بصحيحة أبي العباس وزرارة المتقدّمة عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: إنّ العمد أن يتعمّده فيقتله بما يقتل مثله ، والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله يقتله بما لا يقتل مثله ، والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمّد شيئاً آخر فيصيبه(1) . نظراً إلى أنّ التقييد بقوله (عليه السلام) «بما لا يقتل مثله» يدلّ على أنّ الآلة إذا كانت قتّالة فليس هو من الخطأ ، وإن لم يقصد القتل ابتداءً(2) .
ويرد عليه أنّ هذا التقييد كما وقع في الخطأ وقع التقييد بما يقتل مثله في العمد ، مع أنّ الظاهر عدم كونه مقيّداً به ، لما عرفت في المورد الثاني من أنّ قصد القتل يوجب تحقّق العمد وإن لم تكن الآلة قتّالة ، فالإنصاف أنّ الدليل في هذا المورد هي الروايات التي أوردناها ، وقد استدلّ بها صاحب الجواهر (قدس سره)(3) .
بقي الكلام في أنّه هل يتحقّق العمد فيما إذا لم يقصد القتل ولم يكن الفعل مؤثِّراً في القتل بحسب الغالب أو لا يتحقّق؟ فيه وجهان ، بل قولان ، حكى عن الغنية الإجماع على الثاني(4) . وقال في الجواهر: لا أجد فيه خلافاً بين المتأخّرين(5) .
- (1) تقدّمت في ص16 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 4 مسألة 1 .
- (3) جواهر الكلام : 42 / 14 .
- (4) غنية النزوع: 402 .
- (5) جواهر الكلام : 42 / 16 .
(الصفحة 21)
ولكن المحكي عن الشيخ في المبسوط: أنّه عمد(1) ، كالمورد الثالث إمّا مطلقاً كما حكاه عنه بعض(2) ، أو في خصوص الأشياء المحدّدة فقط ، كما هو مقتضى العبارة المحكية عنه في كشف اللثام(3) .
وأمّا بالنظر إلى الرواية ، فقد ذكر المحقّق في الشرائع: أنّ فيه روايتين : أشهرهما أنّه ليس بعمد يوجب القود(4) . ومراده هو الطائفتان من الروايات ، لا خصوص روايتين ، ولابدّ قبل ملاحظتهما من النظر في أنّ مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن الرواية هل هو الوجه الأوّل أو الثاني .
فنقول: ظاهر الجواهر بل صريحه هو الأوّل ، نظراً إلى أنّه لا مدخلية للقصد في صدق القتل عرفاً ، بل ولا في صدق القتل عمداً; لأنّ معناه حصوله على جهة القصد إلى الفعل عدواناً الذي حصل به القتل ، وإن كان ممّا يقتل نادراً . إذ ليس في شيء من الأدلّة العمد إلى القتل ، بل ولا العرف يساعد عليه ، فإنّه لا ريب في صدق القتل عمداً على من ضرب رجلاً عادياً غير قاصد للقتل ، أو قاصداً عدمه فاتّفق ترتّب القتل على ضربه العادي منه المتعمّد له(5) .
ويدلّ عليه عدم ثبوت قصد القتل في المورد الثالث من موارد القتل عمداً ، فيظهر منه عدم كون إرادة القتل دخيلة في تحقّق عنوان العمد أصلاً ، ولكنّ الظّاهر خلاف ما أفاده ، نظراً إلى عدم صدق تفسير الموجب للقصاص عليه وعدم
- (1) المبسوط: 7 / 16 .
- (2) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 15 / 68 .
- (3) كشف اللثام: 2 / 439 .
- (4) شرائع الإسلام: 4 / 971 .
- (5) جواهر الكلام : 42 / 17 ـ 18 .
(الصفحة 22)
مساعدة العرف أيضاً ، فإنّه لا يقال لمن ضرب الغير بالكفّ مثلاً ضربة واحدة غير مؤثّرة في القتل نوعاً ، ولكن اتّفق موته بسببها على خلاف الغلبة: أنّه تحقّق منه قتل العمد وأزهق النفس المحترمة عمداً . وقد ذكرنا أنّ ثبوت هذا العنوان في المورد الثالث إنّما هو بلحاظ عدم انفكاك قصد القتل عن قصد الفعل مع الإلتفات إلى كون الآلة قتّالة ، وإن كان مقصوده الأصلي غير القتل ، وعليه فالظّاهر أنّ مقتضى القاعدة عدم تحقّق العمد في المقام .
وأمّا الروايات ، فطائفة منها ظاهرة في ذلك ، مثل صحيحة فضل بن عبدالملك المتقدّمة في المورد الثالث ، نظراً إلى قوله: «سألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفّارة ، أهو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله؟ قال: نعم» . فإنّ مقتضاه تحقّق الخطأ الذي يكون المراد به شبه العمد مع عدم قصد القتل ، وعدم كون الآلة قتّالة ، كما هو المفروض في كلام الإمام (عليه السلام) قبل هذا السؤال وهو الضرب بالحديدة ، وكذا صحيحة أبي العبّاس وزرارة المتقدّمة في المورد الثالث أيضاً ، فإنّ قوله (عليه السلام) : «والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله ، يقتله بما لا يقتل مثله» ظاهر في تحقّق الخطأ بالمعنى المذكور مع اجتماع عدم إرادة القتل ، وكون الفعل غير مؤثِّر في القتل نوعاً .
وكذا صحيحة اُخرى لأبي العباس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أرمي الرجل بالشيء الذي لايقتل مثله، قال: هذا خطأ ، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها، قلت: أرمي الشاة فأُصيب رجلاً، قال: هذا الخطأ الذي لا شكّ فيه ، والعمد الذي يضرب بالشيء الذي يقتل بمثله(1) فإنّ الظاهر أو القدر المتيقّن من قوله: «أرمي الرجل» هو الرمي الخالي عن إرادة القتل ، فتدلّ الرواية على كونه خطأ.