(الصفحة 221)
والظاهر أنّ قوله (عليه السلام) في صدر الرواية: «من قِبَل» بكسرالقاف وفتح الباء ، لا بفتح القاف وسكون الباء ، فمفاده أنّ مشروعية القسامة كان من ناحية رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولا سابقة لها قبل الإسلام ، وهذه الرواية هي التي أشرنا إليها في أوّل البحث .
وموردها إن كانت صورة تحقّق اللّوث والتهمة إلاّ أنّ دلالتها على اعتبارها في القسامة ممنوعة ، سيّما مع إطلاق كلام الإمام (عليه السلام) بعد نقل القصة الواقعة بخيبر ، فإنّ ظاهره أنّ مسألة الدّم لها خصوصية من جهة اعتبار القسامة من دون مدخلية أمر آخر ، والتفصيل في الذيل في الدية بين ما إذا وجد المقتول في القرية ، وبين ما إذا وجد في أرض فلاة ، بلزومها على أهل القرية في الأوّل ، ولزوم أدائها من بيت المال في الثاني ، لعلّه يستفاد منه عدم اعتبار اللّوث ، فتدبّر .
ومنها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن القسامة؟ فقال: هي حقّ ، إنّ رجلاً من الأنصار وجد قتيلاً في قليب من قلب اليهود ، فأتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقالوا: يا رسول الله إنّا وجدنا رجلاً منّا قتيلاً في قليب من قلب اليهود ، فقال: ائتوني بشاهدين من غيركم ، قالوا: يا رسول الله ما لنا شاهدان من غيرنا ، فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) : فليقسم خمسون رجلاً منكم على رجل ندفعه إليكم ، قالوا: يا رسول الله كيف نقسم على ما لم نرَ؟ قال: فيقسم اليهود ، قالوا: يا رسول الله كيف نرضى باليهود وما فيهم من الشرك أعظم ، فودّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
قال زرارة : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إنّما جعلت القسامة احتياطاً لدماء الناس ، كيما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلاً أو يغتال رجلاً حيث لا يراه أحد خاف ذلك فامتنع من القتل(1) .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 117 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 10 ح 3 .
(الصفحة 222)
وذكر الفاسق في مقام التعليل لا دلالة له على اعتبار اللّوث ، بعد احتمال أن يكون لأجل عدم صدور القتل من غير الفاسق نوعاً ، كما تقدّم .
ومنها: صحيحة مسعدة بن زياد ، عن جعفر (عليه السلام) قال: كان أبي رضي الله عنه إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه ، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، ثمّ تؤدّى(1) الدّية إلى أولياء القتيل ، ذلك إذا قتل في حيّ واحد ، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة فديته تدفع إلى أوليائه من بيت المال(2) .
والظّاهر أنّ التعبير عن المدّعى عليه بالمتّهم كما في الرواية لا دلالة له على اعتبار الاتّهام في القسامة ، وأمّا التفصيل في الذيل فسيأتي البحث في المراد منه .
ومنها: موثّقة زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّما جعلت القسامة ليغلظ بها في الرجل المعروف بالشرّ المتّهم ، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم(3) .
وقد جعله في الجواهر(4) أظهر من الرواية المتقدّمة في الدلالة على اعتبار اللّوث ، وإن حكم بعده بعدم ظهورها فيه كالرواية السابقة ، ولعلّ الوجه فيه أنّ ذيل الرواية الظاهر في جواز الشهادة على المتّهم بعد القسامة كما يظهر من التفريع ظاهر في أنّ المراد بالقسامة في الصدر هي الأيمان المتوجّهة إلى المدّعى عليه ، لا الأيمان الثابتة ابتداء على المدّعي ، وعليه فالتغليظ فيها بلحاظ الرجل الكذائي الذي يفرّ من القتل الذي صدر منه لا دلالة له على انحصار مورد الأيمان بذلك .
- (1) كذا في التهذيبين ، ولكن في كلا طبعتي الوسائل : يؤدّي .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 115 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 6 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 116 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 7 .
- (4) جواهر الكلام: 42 / 231 .
(الصفحة 223)
وبعبارة أُخرى مرجع الرواية إلى أنّ التغليظ في ناحية المدّعى عليه إنّما هو لئلاّ تتحقّق الأيمان منه إذا فرض صدور القتل منه ، وهذا لا يلازم اختصاص مشروعية القسامة بخصوص مثل الرّجل ، كما لا يخفى .
ومنها: رواية ابن سنان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إنّما وضعت القسامة لعلّة الحوط يحتاط على الناس ، لكي إذا رأى الفاجر عدوّه فرّ منه مخافة القصاص(1) . وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا دلالة لها أيضاً على اعتبار اللّوث .
هذا ، ولكن لا تنبغي المناقشة في أصل اعتباره ، وإن كانت دلالة الروايات عليه بالظهور ممنوعة ، لكون المورد في كثير منها صورة وجود اللّوث ، كما في واقعة خيبر ، والمطلقات إنّما يكون إطلاقها لبيان أصل المشروعية لا في مقام بيان ثبوتها بنحو الإطلاق .
فاللاّزم الاقتصار على القدر المتيقّن ، خصوصاً بعد ملاحظة كون القسامة مخالفة للقاعدة من وجوه ، لأنّ مقتضاها ثبوت اليمين على المنكر دون المدّعي . مضافاً إلى عدم تعدّد الحلف في مورد سوى القسامة ، كما أنّه لا مجال لجواز حلف الإنسان لإثبات حقّ غيره ، وغيره من الوجوه المخالفة للقاعدة . وعليه فلابدّ في إثبات إطلاقها من وجود دليل قويّ عليه ، والظاهر أنّه غير موجود في المقام ، فلا محيص عن اعتبار اللّوث ، وقد عرفت في أوّل البحث دعوى الإجماع عليه .
ويؤيّده أنّك عرفت في بعض الروايات أنّ مشروعيّة القسامة إنّما هي للاحتياط في دماء المسلمين ، والاحتياط فيها يقضي باعتبار اللّوث فيها ، وإلاّ فربّما يدّعي الفاسق الفاجر القتل على مؤمن ، ويأتي بالأيمان لإثباتها مع عدم وجود أمارة ظنّية على صدقه في دعواه بوجه ، وعليه فلو أخذ به يلزم بطلان دم المسلم كما لايخفى ،
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 116 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 9 .
(الصفحة 224)مسألة 1 ـ لو وجد في قرية مطروقة فيها الإياب والذهاب أو محلّة منفردة كانت مطروقة فلا لوث ، إلاّ إذا كانت هناك عداوة فيثبت اللّوث1..
فمقتضى الاحتياط في الدماء اعتبار اللّوث أيضاً .
وأمّا معنى اللّوث ، فهو كما عرفت هي التّهمة الحاصلة بسبب الأمارات الظنّية عند الحاكم الحاكمة بصدق المدّعي في دعواه ، وأمّا المدّعي فاللأزم أن يدّعي بصورة الجزم ، لأنّ الجزم من شروط سماع الدعوى وقابليّتها للطرح عند الحاكم . والظاهر أنّ المراد من الظنّ هو الظنّ الشخصي الحاصل للحاكم . فاللاّزم محلاظة حصوله ، والاُمور المذكورة في المتن إنّما يوجب حصول الظنّ نوعاً ، وإذا لم يوجب في مورد فالظاهر عدم تحقّق اللّوث في ذلك المورد . وبعبارة أخرى: الملاك هو الظنّ الشخصي الحاصل من أيّ سبب ، ولا مدخلية لخصوصية سبب . والظاهر أيضاً أنّه ليس من شأن الفقه والفقيه بيان موارد اللّوث وتمييزها عن غيرها ، بعد وضوح الضابطة الكلّية وعدم ثبوت التعبّد في هذه الجهة أصلاً .
1 ـ لا خفاء في أنّه مع عدم ثبوت العداوة لا يكون هناك لوث ، لأنّ المفروض أنّ القرية أو المحلّة مطروقة ، ويجري فيها الإياب والذهاب من غير أهلها ، وهذا بخلاف ما لا يدخل فيها غير أهلها ، كما ذكره في المتن من موارد ثبوت اللوث وحصول التهمة ، كما أنّه يظهر انّه لو كانت المحلّة يدخلها غير أهلها نهاراً لا ليلاً ، فإن وجد قتيلاً فيها ليلاً يثبت اللّوث دون النهار ، وكذا العكس ، ولا يعتبر في هذه الصورة العداوة بوجه ، وإن كان محكيّاً عن جماعة(1) ، ولكن سيأتي في المسألة
- (1) منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 459 وابن فهد في المهذّب البارع: 5 / 214 والشهيد في المسالك: 15/199 .
(الصفحة 225)مسألة 2 ـ لو وجد قتيل بين القريتين فاللّوث لأقربهما إليه ، ومع التساوي فهما سواء في اللّوث ، نعم لو كان في إحداهما عداوة فاللّوث فيها وإن كانت أبعد1..
الثانية الآتية أنّ ضمان أهل القرية الذين وجد القتيل فيهم لا يرتبط بمسألة اللّوث ، فانتظر .
1 ـ قد تعرّض لهذه المسألة المحقّق في الشرائع(1) ، وجعل الملاك في اللوث وعدمه هو القرب والبعد ، من دون التعرّض لعنوان العداوة أصلاً ، وحكى في الجواهر عن صاحب الغنية الإجماع عليه(2) ، ثم استدلّ عليه بروايات متعدّدة(3) .
ولابدّ في هذه المسألة وكذا السابقة من ملاحظة الروايات الواردة في الباب ، ليظهر أنّها هل تدلّ على ارتباط مسألة ضمان أهل القرية بمسألة اللّوث أم لا؟
فنقول: منها ذيل صحيحة بريد المتقدّمة في أصل البحث ، وهو قوله(صلى الله عليه وآله): وإلاّ ـ أي وإن لم يحلف المدّعي ـ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ، وإلاّ اُغرموا الدّية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون(4) .
فإنّه يدلّ على أنّه مع نكول المدّعى عليه عن الحلف يجب عليه أداء الدية ـ أي من ماله ـ إذا كان القتيل قد وجد بين أظهرهم ، أي في قريتهم أو محلّتهم مثلاً .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 996 .
- (2) غنية النزوع: 414 ـ 415 .
- (3) جواهر الكلام: 42 / 233 .
- (4) تقدّمت في ص219 .