(الصفحة 226)
وظاهره أنّ وجوب أداء الدية إنّما هو لأجل كون القتيل قد وجد كذلك ، لا لأجل ثبوت اللّوث وكونهم متّهمين كما هو مقتضى ثبوت القسامة عليهم . وبعبارة أُخرى ظاهر الرواية أنّه بمجرّد النكول والإباء عن الحلف يرتفع موضوع القسامة وخصوصياتها ، ويثبت حكم آخر وهو ضمان الدية مع وجدان القتيل بين أظهرهم ، وهذا أمر لا يرتبط بالقسامة وباللّوث المعتبر فيها ، كما لايخفى .
ومنها: ذيل رواية أبي بصير المتقدّمة أيضاً ، وهو قوله (عليه السلام) : وإن لم يقسموا ـ أي المدّعون ـ فإنّ على الذين ادّعي عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً ، فإن فعلوا أدّى أهل القرية الذين وجد فيهم ، وإن كان بأرض فلاة أدّيت ديته من بيت المال ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرىء مسلم(1) .
والظاهر أنّ المراد من أهل القرية غير المدّعى عليهم ، ويدلّ عليه التصريح بفاعل «أدّى» مع أنّ مقتضى الجمع بينها وبين سابقتها ذلك كما هو ظاهر ، وعليه فلا معارضة بين هذه الرواية وبين الرواية المتقدّمة ، كما أنّه عليه يكون أهل القرية غير داخلين في مسألة القسامة واللوث ، بل الحكم بضمانهم ولزوم الدية عليهم لأجل مجرّد وجدان القتيل فيهم ، كما أنّه لو وجد بأرض فلاة تثبت ديته على بيت المال .
ومنها: صحيحة مسعدة المتقدّمة أيضاً قال: كان أبي رضي الله عنه إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه ، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، ثمّ تؤدّى الدية إلى أولياء القتيل ، ذلك إذا قتل في حيّ واحد ، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة فديته
(الصفحة 227)
تدفع إلى أوليائه من بيت المال(1) .
وظاهرها لزوم الدية على المتهمين مع حلفهم بالنحو المذكور ، وهذا ينافي ما تقدّم ، ومقتضى الجمع حمل الذيل على كون المتّهمين غير أهل الحي الواحد ، الذي وجد القتيل فيه وتحقّق القتل فيه أيضاً ، وعليه فكما ترتفع المعارضة ويتحقّق الجمع يظهر أنّ ضمان أهل ذلك الحيّ الذي تحقّق القتل فيه لا يكون مرتبطاً بالقسامة وبالدعوى والاتّهام أصلاً .
وأمّا ما أفاده بعض الأعلام(2) من الحمل على أداء الدية من بيت المال لعدم تعرّض الرواية للمؤدّي ، ففي غاية الغرابة خصوصاً مع المقابلة مع الذيل ، فتدبّر .
ومنها: رواية علي بن الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعاً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ، فإن أبوا أن يحلفوا اُغرموا الدية فيما بينهم في أموالهم سواء سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين(3) . والبحث فيها هو البحث في ذيل رواية بريد المتقدّم .
ومنها: صحيحة الحلبي وموثقة سماعة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يوجد قتيلاً في القرية أو بين قريتين؟ قال: يقاس ما بينهما فأيّهما كانت أقرب ضمنت(4) .
والجواب وإن كان متعرّضاً لحكم الفرض الثاني في السؤال إلاّ أنّه يستفاد منه حكم الفرض الأوّل وهو الضمان من دون قيد ، فيظهر أنّ الحكم بالضمان في الفرضين
- (1) تقدّمت في ص222 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 113 مسألة 115 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 115 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 9 ح 5 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 112 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 8 ح 4 .
(الصفحة 228)
حكم مطلق ثابت بنحو التعبّد ، من دون دخالة لمسألة اللّوث فيه أصلاً .
ومنها: صحيحة محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل قتل في قرية أو قريباً من قرية أن يغرم أهل تلك القرية إن لم توجد بيّنة على أهل تلك القرية أنّهم ما قتلوه(1) . وظهورها فيما ذكرنا واضح .
وأمّا صحيحتا محمّد بن مسلم وعبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال في رجل كان جالساً مع قوم فمات وهو معهم ، أو رجل وجد في قبيلة وعلى باب دار قوم فادّعى عليهم ، قال: ليس عليهم شيء ولا يبطل دمه(2) . فمحمولتان على عدم ثبوت القصاص عليهم ، لعدم وجود البيّنة وعدم تحقّق اللّوث الذي يجري فيه القسامة ، وأنّ المراد من عدم بطلان دمه لزوم أداء الدية عليهم ، لوجود القتيل عندهم واحتمال كونهم قاتلين .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ وجود القتيل في القرية أو قريباً منها أو أشباههما يوجب ضمان أهل القرية ومثلهم إن لم يكن هناك بيّنة على أنّ القاتل غيرهم ، ولم ينفه أولياء المقتول . ولا ارتباط لذلك بمسألة اللّوث أصلاً ، والدليل عليه ملاحظة الروايات ، كما عرفت .
ولقد أجاد صاحب الجواهر حيث قال: والنصوص المزبورة لا تعرّض فيها للقسامة، وإنّما اقتصرت على وجوب الدية، ومقتضى الجمع بينها ما تضمّنه صحيح مسعدة وخبر عليّ بن الفضيل من وجوب الدية ، إلاّ إذا علم الأولياء براءتهم وأنّ القاتل غيرهم ، وهذا حكم آخر غير القسامة . نعم لمّا كان اللّوث أمارة تفيد الحاكم
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 112 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 8 ح 5 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 111 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 8 ح 1 .
(الصفحة 229)مسألة 3 ـ لو لم يحصل اللوث فالحكم فيه كغيره من الدعاوي ، فلا قسامة ولا تغليظ ، والبيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، فللوليّ مع عدم البيّنة إحلاف المنكر يميناً واحداً1..
ظنّاً بصدق المدّعي لو ادّعى ، فهناك يجري حكم القسامة ، بخلاف ما إذا لم يدّع ، فإنّ الدية حينئذ عليهم إلاّ مع البيّنة على أنّ القاتل غيرهم أو القسامة أو براءة الأولياء لهم(1) .
كما أنّه ظهر بطلان الجمع بالنحو الذي ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) ، حيث أنّه في محكيّ التهذيب والاستبصار بعد نقل صحيحتي الحلبي ومحمد بن قيس قال: إنّما يلزم أهل القرية أو القبيلة إذا وجد القتيل بينهم إن كانوا متّهمين بالقتل وامتنعوا من القسامة ، فأمّا إذا لم يكونوا متّهمين بالقتل أو أجابوا إلى القسامة فلا دية عليهم ، وتؤدّى ديته من بيت المال(2) ، واستشهد لذلك بروايتي مسعدة وعليّ ابن الفضيل المتقدّمتين .
1 ـ والوجه فيه واضح بعدما عرفت من اختلاف القسامة مع الإقرار والبيّنة في اشتراط اعتبارها بصورة حصول اللّوث دونهما ، فإنّ مقتضى ذلك أنّه مع عدم حصول اللّوث يكون الحكم في القتل متّحداً مع سائر الدعاوي ، فيجري فيه القاعدة الكلية وهي: «البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه» ، فالوليّ مع عدم إقامة البيّنة ليس له إلاّ إحلاف المنكر حلفاً واحداً من دون قسامة ولا تغليظ ، كما هو ظاهر .
- (1) جواهر الكلام: 42 / 234 .
- (2) الاستبصار: 4 / 278 ، التهذيب: 10 / 205 .
(الصفحة 230)مسألة 4 ـ لو قتل شخص في زحام الناس ليوم جمعة أو عيد أو وجد في فلاة أو سوق أو على جسر ولم يعلم من قتله فديته من بيت مال المسلمين ، نعم لو كان في الموارد المذكورة أمارة ظنّية على كون القتل بفعل شخص معيّن مثلاً حصل اللوث1..
1 ـ ثبوت الدية على بيت المال في الموارد المذكورة وأشباهها مع عدم اللّوث بالإضافة إلى فرد معيّن أو أفراد معينين ممّا ادّعي عليه الإجماع في محكي الغنية(1) ، ويدلّ عليه روايات مستفيضة بل متواترة .
مثل : صحيحة عبدالله بن سنان وعبدالله بن بكير جميعاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولاً لا يدرى من قتله ، قال: إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ، ولا يبطل دم امرىء مسلم ; لأنّ ميراثه للإمام ، فكذلك تكون ديته على الامام ، ويصلّون عليه ويدفنونه . قال: وقضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات ، أنّ ديته من بيت مال المسلمين(2) .
وصحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ازدحم الناس يوم الجمعة في إمرة علي (عليه السلام) بالكوفة فقتلوا رجلاً ، فودّى ديته إلى أهله من بيت مال المسلمين(3) .
ورواية مسمع بن عبدالملك ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: من مات في زحام الناس يوم الجمعة أو يوم عرفة أو على جسر لا يعلمون من قتله ،
- (1) غنية النزوع: 42 / 234 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 109 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 6 ح 1 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 109 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 6 ح 2 .