(الصفحة 31)
عدم اعتبار قصد القتل ولا كون الشيء ممّا يقتل مثله غالباً ، إذ هو عمد إلى القتل ، لا قتله عامداً ، والعنوان في الأدلّة الثاني لا الأوّل . وذكر أنّ ما في بعض النصوص من عدم تحقّق العمد فيما إذا ضرب ضربة بالعصا فمات المضروب إنّما هو على خلاف القاعدة فيقتصر فيه على مورده ، وأمّا المقام فلم يدلّ دليل على خروجه ، فيبقي تحت القاعدةويحكم بكونه عمداً ، والحكم بثبوت القود في مورد سراية الجرح غير القاتل إنّما هو لهذه الجهة ، لا لأجل كونه بسبب السراية يصير ممّا يقتل مثله.
والحقّ أن يقال ـ بناءً على ما اخترناه من اعتبار أحد الأمرين في تحقّق عنوان العمد على سبيل منع الخلوّ ، ولازمه كون ما ورد في الضربة بالعصا من النصوص الدالّة على أنّه يشبه العمد إنّما هو على وفق القاعدة لا على خلافها ـ : إنّ اللاّزم في المقام التفصيل في صورة عدم قصد القتل ابتداءً وأصالة ، بين ما إذا علم الضارب بأنّ ضربه يعقب المرض وأنّه يؤثّر في القتل غالباً ، وبين صورة الجهل بذلك ، ففي الصورة الأولى لا ينفكّ علمه بذلك عن قصد القتل تبعاً; لوضوح أنّه مع العلم بأنّ ضربه معقِّب للمرض الذي يترتّب عليه الموت كيف لا يكون قاصداً للقتل تبعاً ، ولو لم يقصده بالأصالة .
وأمّا في صورة الجهل فلا وجه لتحقّق عنوان العمد ، بعدما كان الصادر منه هو الضربة الواحدة غير المؤثِّرة في القتل غالباً ، وإعقابها للمرض المؤثّر فيه لم يكن معلوماً له بوجه . وقد مرّ في المسألة السادسة أنّ ثبوت القصاص في ضرب الضعيف المؤثّر في قتله إنّما هو فيما إذا كان الضارب عالماً بضعفه ، ولا يشمل صورة الجهل ، فالمقام أيضاً من هذا القبيل . ولعلّ الحكم بثبوت العمد في مورد سراية الجرح غير القاتل إنّما هو في خصوص صورة العلم بالسراية المؤثرة في القتل دون الأعمّ منها ومن صورة الجهل . وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
(الصفحة 32)مسألة 9 ـ لو منعه عن الطعام أو الشراب مدّة لا يحتمل لمثله البقاء فهو عمد وإن لم يقصد القتل ، وإن كان مدّة يتحمّل مثله عادة ولا يموت به لكن اتفق الموت ، أو أعقبه بسببه مرض فمات ففيه التفصيل بين كون القتل مقصوداً ولو رجاءً أو لا1.
مسألة 10 ـ لو طرحه في النار فعجز عن الخروج حتّى مات ، أو منعه عنه حتّى مات قتل به ، ولو لم يخرج منها عمداً وتخاذلاً فلا قود ولا دية قتل ، وعليه دية جناية الإلقاء في النار ، ولو لم يظهر الحال واحتمل الأمران لا يثبت قود ولا دية2..
1 ـ لا إشكال في ثبوت العمد الموجب للقصاص في الفرض الأوّل وإن لم يقصد القتل ، لأنّ المفروض عدم تحمّل مثله من جهة السنّ والحال وغيرهما; للممنوعية عن الطعام أو الشراب في تلك المدة .
كما أنّه لا إشكال في عدم تحقّق العمد مع عدم قصد القتل فيما إذا كان المنع مدّة يتحمّل مثله عادة ولا يموت به غالباً ، ولكن تحقّق الموت على سبيل المصادفة والإتفاق ، كضربة واحدة بمثل العصا ، وأمّا فيما إذا أعقب مرضاً وصار المرض سبباً للموت فاللاّزم بمقتضى ما مرّ في المسألة المتقدّمة التفصيل مع عدم قصد القتل ، بين صورة علمه بذلك وأنّ المنع يعقب مرضاً كذلك ، فيتحقّق العمد لثبوت قصد القتل لا محالة ولو تبعاً; وبين صورة الجهل بذلك ، فلا وجه للقصاص لعدم تحقّق العمد بوجه .
2 ـ في هذه المسألة فروع:
الأوّل: ما لو طرحه في النار ، ولكنّه كان عاجزاً عن الخروج مع العلم بذلك أو
(الصفحة 33)
منعه عنه حتّى مات ، ولا إشكال فيه في ثبوت القود ، لتحقّق موجبه الذي هو قتل العمد ، لكون العمل مؤثِّراً في القتل والموت من دون فرق بين صورة العجز وصورة المنع ، وهذا واضح .
الثاني: ما لو طرحه في النار ولكنّه كان قادراً على الخروج ، ومع ذلك لم يخرج منها عمداً وتخاذلاً ، ولا ينبغي الإشكال في عدم استناد القتل في هذا الفرض إلى الملقي ، بل هو مستند إلى البقاء الذي هو فعل اختياريّ للمطروح ، ضرورة أنّه لو لم يختر المكث والبقاء لما تحقّق الموت أصلاً ، فالموت مستند إلى نفسه لا محالة ، ولا يستند إلى عمل الملقي الذي هو مجرّد الإلقاء الذي لا يترتّب عليه الموت . ومنه يظهر أنّه كما لا مجال للقصاص في هذا الفرض ، لا يثبت دية أيضاً; لأنّ ثبوت الدية فرع الاستناد ، ولو كان بنحو الخطأ أو شبه العمد ، والمفروض انتفاء الاستناد رأساً . نعم لو ترتّب على مجرّد الإلقاء جناية تجب ديتها على الملقي ، ولكنّها لا ترتبط بالقتل الموجب للقصاص أو الدية .
ثمّ إنّ الفرق بين هذه الصورة ، وبين ما إذا كان قادراً على المعالجة والمداواة ، ولكنّه تركها اختياراً حتّى مات ـ الذي ادّعى صاحب الجواهر (قدس سره)(1) فيه الاتفاق على الضمان ـ هو أنّه مع ترك المعالجة وإن كان يتحقّق التقصير بملاحظة عدم رعاية حفظ النفس الواجب عليه لأنّ المفروض القدرة عليه ، إلاّ أنّه لا يوجب استناد الموت إلى التارك لها ، بل الموت مستند إلى مثل الجارح ، فإنّ الجرح صار سبباً لتحقق الموت ، وإن كان المجروح قادراً على إيجاد المانع بسبب المعالجة ، إلاّ أنّ استناد الموت إنّما هو إلى المقتضي والسبب دون عدم المانع . وهذا كما لو كان من يراد
- (1) جواهر الكلام: 42 / 27 .
(الصفحة 34)
قتله قادراً على الفرار ولكنّه لم يفرّ ، فقتل ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ القتل إنّما يكون مستنداً إلى القاتل لا إلى المقتول ، باعتبار القدرة على الفرار المانع عن تحقّق القتل . وهذا بخلاف المقام فإنّ الموت مستند إلى البقاء في النّار اختياراً ، ولا مجال لاستناده إلى الإلقاء .
وبعبارة أُخرى: السبب في المقام هو البقاء ، وإن كان اختياره متفرّعاً على الإلقاء ، بمعنى أنّه لولا الإلقاء لما اختار البقاء ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب الإستناد إلى الإلقاء بوجه .
الثالث: صورة الشك في أنّ عدم الخروج هل كان مستنداً إلى العجز أو ناشئاً عن التعمّد والتخاذل ، وفيه وجهان ، بل قولان . يظهر القول بثبوت القصاص من المحقّق في الشرائع ، حيث قال: «لو طرحه في النار فمات قتل به ، ولو كان قادراً على الخروج لأنّه قد يشدّه ، ولأنّ النار قد تشنج الأعصاب بالملاقاة ، فلا يتيسر الفرار»(1) .
وليس مراده من القدرة على الخروج هي القدرة عليه المساوقة للتعمّد والتخاذل ، لأنّه مضافاً إلى وضوح عدم ثبوت القصاص في مورد التعمّد لا يلائمه التعليل ، لأنّ ظاهره أنّ الدهشة الحاصلة وكذا تشنّج الأعصاب بالملاقاة ربّما يمنع عن الفرار ، فالمفروض صورة الشك ، والتعميم إنّما هو بلحاظ هذه الصورة .
ويظهر من العلاّمة في القواعد عدم ثبوت القصاص ، قال: «وإن تركه في نار فتمكّن من التخلّص منها لقلّتها أو لكونه في طرفها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج فلا قصاص ، وفي الضمان للدية إشكال ، أقربه السقوط ، إن علم أنّه ترك
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 972 .
(الصفحة 35)
الخروج تخاذلاً; ولو لم يعلم ذلك ضمنه ، وإن قدر على الخروج ، لأنّ النار قد ترغبه وتدهشه وتشنج أعضائه بالملاقاة فلا يظفر بوجه المخلّص»(1) .
فإنّ التفصيل في الدية بين صورة العلم بالتخاذل وصورة الشكّ فيه مع إطلاق الحكم بعدم ثبوت القصاص يعطي عموم الحكم بالعدم فيه ، وإن كان ظاهر صدر العبارة يشعر بالاختصاص بصورة العلم بالتخاذل ، كما لا يخفى .
وقد ذكر الشهيد في المسالك في وجه ثبوت القصاص في المقام: أن السبب المقتضي للضمان وهو الإلقاء متحقّق ، مع الشك في المسقط ، وهو القدرة على الخروج مع التهاون فيه ، ولا يسقط الحكم بثبوت أصل القدرة ما لم يعلم التخاذل عن الخروج ، لاحتمال أن يعرض له ما يوجب العجز من دهشة وتحيّر ، أو تشنّج أعضائه ونحو ذلك(2) .
ويرد عليه أنّه لم يدلّ دليل على سببيّة الإلقاء للضمان ، ومن الواضح افتقار السببية إلى جعل الشارع وقيام الدليل . وقد حقّقنا في الأصول أنّ الأحكام الوضعيّة بأجمعها مجعولة للشارع ، غاية الأمر أنّ تعلّق الجعل ببعضها ربّما يكون بجعل منشأ انتزاعه ، وإن كان يمكن فيه الجعل مستقلاًّ أيضاً .
وبالجملة: اقتضاء الإلقاء بمجرّده للضمان وسببيّته له لم يدلّ عليه دليل بوجه ، فلا مجال لما في المسالك .
مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ مراده من المسقط هو المانع ، وعليه لا يحكم بترتّب المقتضى ـ بالفتح ـ مع إحراز المقتضي ـ بالكسر ـ والشكّ في وجود المانع .
- (1) قواعد الأحكام: 2 / 279 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 73 .