(الصفحة 36)
ويظهر من كاشف اللّثام في وجه ترديد القواعد في الحكم بالدية ما يجري في القصاص أيضاً . قال: «ومبنى الوجهين على تعارض ظاهرين وأصلين ، فإنّ الظاهر من حال الإنسان أنّه لا يتخاذل عن الخروج حتى يحترق ، وظاهر النار المفروضة سهولة الخروج عنها ، وأنّه لا يحترق بها إلاّ من تعمّد اللّبث فيها ، والأصل براءة الذمّة ، والأصل عدم الشركة في الجناية(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى المناقشة في مثل أصالة عدم الشّركة في الجناية ، فإنّ الشركة فيها ليست لها حالة سابقة وجودية أو عدميّة، مع أنّ هذا الأصل لا يثبت استقلال المُلقى، إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي هو على خلاف التحقيق ، وأنّ الشك ليس في الشركة وعدمها ، بل في استقلال المُلقى في الجناية واستقلال المطروح في النار فيها ، فالترديد إنّما هو في استقلال المُلقى أو المطروح ـ أنّ ما هو العمدة في الحكم بعدم القصاص هو عدم إحراز موضوع الحكم بالقصاص ، وهو قتل العمد ، فإنّه مع احتمال كون الموت ناشئاً عن البقاء الإختياري في النار ـ ومعه لا يستند الموت إلى المُلقى بوجه ـ يشك في استناد القتل إليه وصدوره منه ، ومع الشك في صدور القتل منه وعدمه لم يحرز عنوان قتل العمد الّذي يعتبر فيه أوّلاً إضافة القتل إلى من يراد قصاصه ، ومع الشكّ في ذلك وعدم إحرازه لا يبقى مجال لترتيب الحكم بالقصاص.
فالعمدة في مبنى المسألة ما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع والشك في تحقّقه ، ومنه يظهر أنّه كما لا وجه للقصاص في هذه الصورة التي هي فرض الشك ، لا وجه لثبوت الدية أيضاً ، لأنّ موضوعها هو القتل المضاف إلى من يراد أخذ الدية منه أو
- (1) كشف اللثام: 2 / 441 .
(الصفحة 37)مسألة 11 ـ لو ألقاه في البحر ونحوه فعجز عن الخروج حتّى مات ، أو منعه عنه حتى مات قتل به ، ومع عدم خروجه عمداً وتخاذلاً أو الشكّ في ذلك فحكمه كالمسألة السابقة ، ولو اعتقد أنّه قادر على الخروج لكونه من أهل فنّ السباحة فألقاه ثمّ تبيّن الخلاف ولم يقدر الملقي على نجاته لم يكن عمداً1.
مسألة 12 ـ لو فصده ومنعه عن شدّه فنزف الدّم ومات فعليه القود ، ولو فصده وتركه فإن كان قادراً على الشدّ فتركه تعمّداً وتخاذلاً حتى مات فلا قود ولا دية النفس ، وعليه دية الفصد ، ولو لم يكن قادراً فإن علم الجاني ذلك فعليه القود ، ولو لم يعلم فإن فصده بقصد القتل ولو رجاءً فمات فعليه القود ظاهراً ، وإن لم يقصده بل فصده برجاء شدّه فليس عليه القود ، وعليه دية شبه العمد2..
من عاقلته ، مع أنّ إضافته إليه مشكوكة كما هو المفروض . فالتحقيق يقتضي الحكم بعدم ثبوت الدية أيضاً ، كما في المتن .
1 ـ هذه المسألة مشتركة مع المسألة السابقة في الفروض الثّلاثة ، التي عرفت ثبوت القصاص في الفرض الأوّل وعدم ثبوت القصاص ولا الدية في الفرضين الآخرين ، وتشتمل على فرض رابع وهو: صورة اعتقاد المُلقي قدرة المُلقى على الخروج ، لكونه من أهل فنّ السباحة ، ثم تبيّن الخلاف بعد الإلقاء ، ولم يقدر المُلقي حينئذ على نجاته . والظاهر عدم كونه عمداً ، لأنّ المفروض عدم قصد القتل وعدم كون العمل مؤثراً في القتل بحسب اعتقاد المُلقي . وقد مرّ اعتبار العلم بذلك في تحقّق عنوان العمد ، فلا مجال للقصاص ، بل عليه الدية لكونه شبه العمد .
2 ـ أمّا ثبوت القود في الفرض الأوّل ، فلثبوت قتل العمد المتحقّق بمجموع
(الصفحة 38)مسألة 13 ـ لو ألقى نفسه من علوّ على إنسان عمداً ، فإن كان ذلك ممّا يقتل به .
الفصد والمنع عن الشدّ اللّذين هما فعلان اختياريان للفاصد ، وأمّا عدم ثبوت القود ولادية النفس في الفرض الثاني فلاستناد الموت إلى النزف الناشئ عن عدم الشدّ مع القدرة عليه وتركه تعمّداً وتخاذلاً ، وليس عدم الشدّ مماثلاً لترك المعالجة الذي قد عرفت الإتفاق على الضمان فيه ، وذلك لأنّ شدّة النزف ودوامه سبب للموت ومقتض له ، لا أصل الفصد بمجرده ، بخلاف ترك المعالجة الذي هو بمنزلة عدم المانع ، فالمقام إنّما هو كالبقاء في النار في المسألة المتقدّمة عمداً مع كون البقاء متفرّعاً على الإلقاء ، ولو لم يكن إلقاء لما اختار البقاء ، وهذا بخلاف ترك المعالجة كما لا يخفى . فلا قصاص ولا دية للقتل .
نعم لا إشكال في ثبوت دية الفصد ، لأنّ المفروض في أصل المسألة تحقّقه ظلماً وعدواناً ، كما في الإلقاء في البحر أو النّار ، أو منع الطعام أو الشراب ، أو مثلها في المسائل المتقدمة ، فإنّ المفروض في الجميع صورة تحقّق العمل بنحو العدوان والظلم المحرّم .
وأمّا ثبوت القود في الفرض الثالث ، فلأنّ عدم القدرة على الشدّ يوجب اتّصاف الفصد بكونه مؤثِّراً في القتل غالباً ، والمفروض العلم بذلك ، فلا إشكال في القصاص .
وأمّا التفصيل في الفرض الرابع ، وهو صورة عدم العلم بعدم القدرة الشامل لصورة الاعتقاد بالقدرة وصورة الشك فيها ، فلأنّ العمل حينئذ لا يكون مؤثِّراً في القتل على اعتقاده أو لم يحرز تأثيره فيه ، فاللاّزم أن يقال بأنّه إن كان العمل ناشئاً عن قصد القتل ولو رجاءً فهو عمد يوجب القصاص ، وإن لم يكن كذلك فلا قود ، بل الثابت هي دية شبه العمد ، كما هو ظاهر .
(الصفحة 39)غالباً ولو لضعف المُلقى عليه لكبر أو صغر أو مرض فعليه القود ، وإلاّ فإن قصد القتل به ولو رجاءً فكذلك هو عمد عليه القود ، وإن لم يقصد فهو شبه عمد ، وفي جميع التقادير دم الجاني هدر ، ولو عثر فوقع على غيره فمات فلا شيء عليه لا دية ولا قوداً ، وكذا لا شيء على الّذي وقع عليه1..
1 ـ هنا فروع تعرّض المتن لاثنين منها:
الأوّل: ما لو ألقى نفسه من علوّ على إنسان عمداً ، ولابدّ في ثبوت القصاص فيه من ملاحظة الأمرين المعتبرين في قتل العمد على سبيل منع الخلوّ ، وهما: قصد القتل بسببه ولو رجاءً; وكون العمل ممّا يقتل به غالباً ولو مع ملاحظة وصف المُلقى عليه من جهة الكبر أو الصغر أو المرض ، وملاحظة حال الملقي من جهة القوّة ومثلها ، وكيفية الإلقاء والوقوع عليه ، ومقدار العلوّ والارتفاع وغيرها من الاُمور التي لها مدخليّة . فإن تحقّق واحد من الأمرين يثبت القصاص ، وإلاّ فهو شبه عمد ، لكون نفس العمل مقصوداً يثبت فيه الدية على نفسه ، وفي جميع هذه الفروض الثلاثة يكون دم المُلقي الذي هو الجاني هدراً . والظاهر أنّه على تقدير موته وموت المُلقى عليه ينتفى موضوع القصاص ويثبت الدية في ماله ، كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
الثاني: ما لو عثر فوقع على غيره من دون اختيار فمات الغير أو مات هو نفسه أو ماتا معاً ، والظاهر عدم ثبوت شيء فيه ، لا دية ولا قوداً أصلاً . والوجه فيه عدم صدور فعل من الواقع ولا من الذي وقع عليه بوجه أصلاً ، لأنّ المفروض أنّه عثر قهراً ووقع كذلك ، فالموت مطلقا لا يكون مستنداً إلى واحد منهما حتى يتّصف بكونه عمداً أو شبه عمد أو خطأ . ويدلّ على ذلك مضافاً إلى أنّه مقتضى القاعدة روايات متعدّدة:
(الصفحة 40)
مثل: رواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل وقع على رجل فقتله؟ فقال: ليس عليه شيء(1) . والظاهر أنّ المراد هو الوقوع من غير اختيار .
ورواية محمد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال في الرجل يسقط على الرجل فيقتله ، فقال: لا شيء عليه . وقال: من قتله القصاص فلا دية له(2) .
ورواية أُخرى لعبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل وقع على رجل من فوق البيت فمات أحدهما؟ قال: ليس على الأعلى شيء ولا على الأسفل شيء(3) . والظاهر اتّحادها مع الرواية الأُولى ، وإن كان بينهما اختلاف .
ورواية ابن بكير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، في الرجل يقع على رجل فيقتله فمات الأعلى ، قال: لا شيء على الأسفل(4) . والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «فيقتله» هو إرادة قتله ، وإن كان يبعّده أنّ مجرّد إرادة القتل مع عدم تحقّقه لا يترتّب عليه أثر من هذه الجهة .
الثالث: الذي لم يقع التعرّض له في المتن ، ما لو دفعه الغير و وقع على آخر وتحقّق موته أو موت الآخر أو كليهما ، والظاهر عدم ثبوت شيء من القصاص أو الدية على الواقع المدفوع ، وكذا على الآخر الذي وقع عليه ، لعدم تحقّق فعل منهما بوجه أصلاً ، لأنّ الدفع الموجب للوقوع إنّما هو عمل الدافع ، ولا ارتباط له بالآخرين أصلاً ، فلا مجال لثبوت شيء عليهما .
وأمّا الدافع ، فلابدّ في ثبوت القصاص عليه من ملاحظة تحقّق واحد من
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 40 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 2 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 3 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 41 ، أبواب القصاص في النفس ب 20 ح 4 .