(الصفحة 329)
وعن الغنية الإجماع عليه(1) . ومستند الأوّل عمومات أدلّة القصاص كتاباً وسنّة ، مثل قوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَد جَعَلنَا لِوَليِّهِ سُلطَاناً}(2) ، وإن كان للمناقشة في إطلاق مثله مجال واسع ، كما أنّ التمسّك بالأصل ـ مع أنّ مقتضاه عدم ثبوت حقّ القصاص من دون الضمان ـ ممنوع .
ومستند الثاني ما رواه الشيخ صحيحاً عن الصفار ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمّد بن أسلم الجبلي ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقتل وعليه دين وليس له مال ، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال: إنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل ، فإن وهبوا أولياؤه دية القاتل فجائز ، وإن أرادوا القود فليس لهم ذلك حتّى يضمنوا الدّين للغرماء ، وإلاّ فلا(3) .
لكن الرواية ـ مضافاً إلى اضطراب متنها لعدم المناسبة بين كون أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل ، وبين تفريع جواز هبة الدم للقاتل عليه ، فإنّ مقتضى كونهم هم الخصماء عدم جواز الهبة المذكورة بوجه ، خصوصاً مع كون مورد السؤال هي صورة الهبة ، ولا يلائمه تمهيد كون أصحاب الدّين كذلك لبيان حكمه ، فتدبّر ـ قد رواها الشيخ أيضاً في مورد آخر من التهذيب بإسناده عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير; وبإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن أسلم الجبلي ، عن يونس بن عبد الرحمن . والصدوق بإسناده عن محمد بن أسلم ، عن يونس بن عبدالرحمن ، هكذا قال: ـ يعني أبا بصير
- (1) غنية النزوع: 241 .
- (2) الإسراء 17: 33 .
- (3) التهذيب: 6 / 312 ح861 ، وسائل الشيعة: 13 / 112 ، كتاب التجارة ، أبواب الدين والقرض ب 24 ح2 .
(الصفحة 330)
ليث المرادي ـ سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل قتل وعليه دين وليس له مال فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال: إنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل ، فإن وهب أولياؤه دمه للقاتل ضمنوا الدية للغرماء وإلاّ فلا(1) . ومن الواضح عدم كونها رواية أُخرى بل هي نفس الرواية الأُولى ، غاية الأمر وقوع الاشتباه في النقل أو الغلط في النسخة ، وعليه فلم تثبت الرواية بالنقل الأوّل .
نعم يمكن أن يقال: بعدم المنافاة بين النقلين بالإضافة إلى الاقتصاص الذي هو محلّ البحث فعلاً ، لأنّ النقل الأوّل صريح في عدم جواز الاقتصاص قبل الضمان ، والنقل الثاني يستفاد منه ذلك ، لأنّه ليس معنى قوله (عليه السلام) : «وإلاّ فلا» أنّه إن لم تتحقّق الهبة فلا يكون هناك ضمان ، حتّى يتحقّق التعارض بين النقلين ـ كما أفاده بعض الأعلام(2) ـ لعدم كون الشرطية الأولى بنحو يكون الشرط هو الهبة ، والجزاء هو الضمان ، كما هو ظاهرها ، لأنّ المراد بالضمان هنا ليس هو ما يكون حكماً وضعيّاً ثابتاً في مورد إتلاف مال الغير ومثله ، حيث يكون الإتلاف سبباً له وهو مترتّب عليه ، بل المراد هو الضمان الثابت في كتاب الضمان ، وهو ضمان الدين عن المديون .
ومن المعلوم تقدّم هذا الضمان في المقام على استيفاء القصاص ، كما يدلّ عليه تعبير المتن تبعاً للفقهاء ، وعليه فمرجع الشرطية الاُولى إلى أنّه إن تحقّق الضمان تجوز الهبة ، فمعنى قوله (عليه السلام) : «وإلاّ فلا» أنّه إن لم يتحقّق الضمان لا تجوز الهبة ، كما وقع التعبير بمثله في النقل الأوّل .
وعليه فالرواية بظاهرها لا تعرّض فيها لحكم الاقتصاص ، لكن حيث كان
- (1) التهذيب: 10 / 180 ح18 ، وسائل الشيعة: 19 / 92 ، أبواب القصاص في النفس ب 59 ح1 .
- (2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 135 ـ 136 مسألة 44 .
(الصفحة 331)
الحكم بعدم جواز الهبة متفرعاً على كون أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل ، ومن الواضح اقتضاؤه لعدم جواز الاقتصاص من دون ضمان أيضاً ، لأنّه لا فرق بين الهبة والاقتصاص من هذه الجهة ، فمقتضى الرواية حينئذ عدم جواز الاقتصاص المزبور ، وعليه فيتّحد النقلان في الدلالة على هذا الأمر ، غاية الأمر أن دلالة الأوّل إنّما هي بالصراحة ، ودلالة الثاني بإلغاء الخصوصية وثبوت المناط .
نعم تعارضهما رواية علي بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك رجل قتل رجلاً متعمّداً أو خطأ وعليه دين وليس له مال ، وأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته ، فقلت: إن هم أرادوا قتله؟ قال: إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدِّين من سهم الغارمين ، قلت: فإنّه قتل عمداً وصالح أولياؤه قاتله على الدية ، فعلى من الدين ، على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال: بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنّه أحقّ بديته من غيره(1) .
ولكن حيث أنّ الأولتين صحيحتان ، وهذه الرواية ضعيفة فلا مجال لنهوضها في مقابلهما ، بل اللاّزم الأخذ بهما والحكم بعدم جواز الاقتصاص إلاّ بعد الضمان بمقدار الدية ، هذا كلّه في الاقتصاص .
وأمّا الهبة مجّاناً فالمحكي عن المبسوط أنّه قال: إنّ الذي رواه أصحابنا إنّه لم يكن لوليّه العفو على غيرمال ولا القود ، إلاّ أن يضمن حقّ الغرماء(2) . وعن أبي علي أنّه قال: لا يجوز للأولياء العفو إلاّ إذا ضمنوا الدية(3) .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 92 ، أبواب القصاص في النفس ب 59 ح2 .
- (2) المبسوط : 7 / 56 .
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 455 مسألة 135 .
(الصفحة 332)
لكن الشيخ (قدس سره) قال في محكي النهاية: لم يكن لأوليائه القود إلاّ بعد أن يضمنوا الدية عن صاحبهم ، فإن لم يفعلوا لم يكن لهم القود وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم(1) .
فإن ظاهره جواز العفو في مقابل القصاص ، لكن التقييد بقوله : «بمقدار ما يصيبهم» ـ مع أنّ العفو مطلقاً إنّما يمضى في خصوص مقدار العافي ولا يتعدّى عنه ـ ربّما يكون قرينة على أن المراد بالعفو هنا هو العفو بمقدار ما يصيبهم من الزائد على مقدار الدِّين ، وعليه فلا دلالة للعبارة على جواز العفو في مقابل الاقتصاص ، كما لايخفى .
وأمّا الروايات ، فمقتضى خبر أبي بصير على النقل الثاني وخبر علي بن أبي حمزة المتقدّمين عدم جواز هبة الدم للقاتل قبل ضمان الدية للغرماء ، لكن خبر أبي بصير على النقل الأوّل ظاهره الجواز ، بناء على كون الفاعل في قوله (عليه السلام) : «فإن وهبوا» هو الأولياء كما هو الظاهر بل المتعيّن بناء على نقل الجواهر ، حيث نقل هكذا: فإن وهب أولياؤه دمه للقاتل فجائز(2) . وأمّا بناء على ما نقلنا من قوله: فإن وهبوا أولياؤه دية القاتل فيمكن أن يقال: بأنّ معناه أنّه إن وهب أصحاب الدّين أولياء المقتول دية القاتل فجائز حينئذ هبة الأولياء للدم . لكن من الظاهر كون هذا الاحتمال خلاف الظاهر جدّاً ، وعليه فظاهر الرواية هو جواز الهبة في مقابل الاقتصاص .
ولكن الظاهر ثبوت قرائن شاهدة على عدم الجواز ، وهو أنّه لا فرق بين الهبة
- (1) النهاية: 309 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 314 .
(الصفحة 333)مسألة 21 ـ لو قتل واحد رجلين أو أكثر عمداً على التعاقب أو معاً قتل بهم ولا سبيل لهم على ماله ، فلو عفا أولياء بعض لا على مال كان للباقين القصاص من دون ردّ شيء ، وإن تراضى الأولياء مع الجاني بالدية فلكلّ منهم دية كاملة ، فهل لكلّ واحد منهم الاستبداد بقتله من غير رضا الباقين أو لا ، أو يجوز مع كون قتل الجميع معاً ، وأمّا مع التعاقب فيقدّم حقّ السابق فالسابق ، فلو قتل عشرة متعاقباً يقدّم حقّ ولي الأوّل ، فجاز له الاستبداد بقتله بلا إذن منهم ، فلو عفا فالحقّ للمتأخّر منه وهكذا؟ وجوه ، لعلّ أوجهها عدم جواز الاستبداد ولزوم الإذن من الجميع ، لكن لو قتله ليس عليه إلاّ الإثم ، وللحاكم تعزيره ولا شيء عليه ولا على الجاني في ماله ، ولو اختلفوا في الاستيفاء ولم يمكن الاجتماع فيه فالمرجع القرعة ، فإن استوفى أحدهم بالقرعة أو بلا قرعة سقط حقّ الباقين1..
والاقتصاص على تقدير القول بعدم الجواز فيه بل أولويتها منه ، كما لا يخفى . وكون الخبر على النقل الآخر صريحاً في عدم الجواز ، وكون التفريع على أنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل مناسباً للعدم لا للجواز ، خصوصاً مع اشتراك النقلين في هذا التمهيد ، فمقتضى الاحتياط الوجوبي لو لم يكن أقوى هو العدم ، كما في المتن .
1 ـ في هذه المسألة جهات من الكلام:
الأُولى: أنّه لا خلاف ولا إشكال في ثبوت حقّ القصاص لكلّ من أولياء المقتول المتعدّد ، بنحو لو اجتمعوا على المطالبة فقتلوه مباشرة أو استنابة فقد استوفى كلّ منهم حقّه من دون زيادة ولا نقصان ، ولا مجال لاحتمال ثبوت الدية على حسب تعدّد القتل مع القصاص مع كسر واحدة ، إذ ليس لهم عليه إلاّ نفسه ، والجاني لا يجني على أكثر منها ، خلافاً لبعض أهل الخلاف حيث قال: يقتل بجماعتهم ، فإذا