(الصفحة 339)
احتمل الصدور ولكن اعتمد على استصحاب العدم ، ففي ثبوت الدية عليه وعدمه وجهان: من صدور القتل منه بغير حق مباشرة ، وعدم كون السبب أقوى من المباشر ، فهو كمن قدّم إليه الطعام المغصوب فأكله غاية الأمر رجوعه إلى الموكّل ، للقاعدة المتقدّمة كما في المثال ، وهذا من دون فرق بين صورة عدم التمكّن من الإعلام وصورة التمكّن ، ولا مجال للتخصيص بالصورة الثانية . ومن أنّ العمل مشروع له ظاهراً ومباح كذلك ، فلا وجه لترتّب الضمان عليه ، وكون العفو مع عدم علم الوكيل لغواً لعدم ترتّب أثر عليه ، لأنّ الأثر المترقّب هو تخلّص الجاني من القصاص ، ومن الواضح عدم ترتّبه مع جهل الوكيل به ، فهو يشبه العفو بعد خروج السهم من يده مثلاً .
ولكن يرد على الأوّل منع ملازمة المشروعيّة لعدم الضمان ، فإنّ الضمان حكم وضعي يثبت مع تحقّق موجبه من دون فرق بين كونه مباحاً أو غيره ، ألا ترى أنّ أكل مال الغير بدون إذنه في حال الاضطرار مثلاً مباح ، ومع ذلك يترتّب عليه الضمان لقاعدة الإتلاف .
وعلى الثاني منع كون العفو لغواً; بحيث كان وجوده كعدمه ، وذلك لترتّب أثر الدية عليه ، والتشبيه بما ذكر ممنوع بعد كون ذلك المورد بمنزلة العفو بعد الاستيفاء ، لخروج الأمر من يده . فالظاهر بمقتضى ما ذكر ثبوت الدية والرجوع بها إلى الموكِّل بعد الأداء . هذا كلّه في العفو مجّاناً الذي هو ظاهر المتن .
وأمّاالعفو على مال الذي قد عرفت أنّه مشروط بالتراضي مع الجاني، فإن لم يعلم به الوكيل واستوفى القصاص ، وفرضه إنّما يتحقّق بادّعاء الجاني العفو المذكور واعتقاد الوكيل كذبه ، فالحكم فيه من جهة ثبوت الدية على الوكيل ما تقدّم في العفو مجّاناً ، وأمّا من جهة المال الذي وقع التراضي به فيمكن أن يقال برجوعه إلى
(الصفحة 340)مسألة 23 ـ لا يقتصّ من الحامل حتّى تضع حملها ولو تجدّد الحمل بعد الجناية ، بل ولو كان الحمل من زنا ، ولو ادّعت الحمل وشهدت لها أربع قوابل ثبت حملها ، وإن تجرّدت دعواها فالأحوط التأخير إلى اتّضاح الحال ، ولو وضعت حملها فلا يجوز قتلها إذا توقّف حياة الصبي عليها ، بل لو خيف موت الولد لا يجوز ويجب التأخير . ولو وجد ما يعيش به الولد فالظاهر أنّ له القصاص ، ولو قتلت المرأة قصاصاً فبانت حاملاً فالدية على الولي القاتل1..
ورثة الجاني ، لأنّ المال إنّما هو في مقابل عدم القصاص ، والمفروض تحقّقه . ويمكن أن يقال بعدم رجوعه إليهم لأنّه وقع في مقابل إسقاط حقّ القصاص ، والمفروض أنّ الوليّ أسقطه ، وصدور القتل من الوكيل لا يرتبط بذلك أصلاً ، والأرجح هو الاحتمال الأوّل ، فتدبّر .
1 ـ في هذه المسألة مباحث:
الأوّل: في أنّه لا يقتصّ من الحامل ما دامت كونها حاملاً ، والمفروض فعلاً هو قصاص النفس ، وفي الجواهر نفى وجدان الخلاف فيه(1) ، بل في محكي كشف اللّثام الاتفاق عليه(2) . والوجه فيه مضافاً إلى ذلك وإلى ما تقدّم من روايات الحدود المتقدّمة في كتاب الحدود(3) ، التي منها الرواية الواردة في امرأة مجحّ(4) ، وإن كان موردها عدم تمامية الإقرار قبل الوضع; لكنّه يستفاد منها أنّ التأخير إنّما هو
- (1) جواهر الكلام: 42 / 322 .
- (2) كشف اللثام: 2 / 469 .
- (3) تفصيل الشريعة ، كتاب الحدود : 155 ـ 158 .
- (4) وسائل الشيعة: 18 / 377 ، أبواب حدّ الزنا ب 16 ح1 ، والمجحّ : الحامل المقرب التي دنا وِلادُها ، النهاية لابن الأثير : 1/240 .
(الصفحة 341)
بملاحظة الحمل ولزوم التحفّظ على النفس المحترمة التي هي الحمل ، من دون فرق بين كونه قبل جناية الأُمّ أو بعدها ، وكذا لا فرق بين كونه من زنا أو من غيره ، مضافاً إلى تفسير الإسراف في القتل المنهي عنه في ذيل بعض آيات القصاص بذلك ، مع ظهور كونه منه وإن لم ينحصر به .
الثاني: لا إشكال في ثبوت الحمل المانع عن استيفاء القصاص بشهادة أربع قوابل بذلك ، وأمّا لو كانت دعواها مجرّدة عن البيّنة فقد ذكر المحقّق في الشرائع: قيل: لا يؤخذ بقولها ، لأنّ فيه دفعاً للولي عن السلطان ، ولو قيل: يؤخذ كان أحوط(1) . ويظهر منه كون المسألة خلافية ، مع أنّ الظاهر كما في الجواهر(2) عدم وجدان مخالف صريح للقبول ، فإنّ جماعة من الأكابر وإن عبّروا بأنّ الأولى الاحتياط; لكنّ الظاهر أنّ مرادهم هو الاحتياط اللاّزم كما هو ظاهر الشرائع ، وعليه فالظاهر ثبوت الشهرة على القبول .
ويدلّ على القبول ـ مضافاً إلى أنّ للحمل أمارات مخفيّة أيضاً تجدها الحامل من نفسها ، وتختصّ بمراعاتها على وجه يتعذّر إقامة البيّنة عليها ، فيقبل قولها فيه كالحيض ونحوه ـ قوله تعالى:
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكتُمنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ}(3) نظراً إلى أنّ عدم حلّية الكتمان مستلزم للحجّية والاعتبار ، وإن كان يمكن المناقشة في الاستدلال به بوروده في المطلقات ، ولا دليل على التعميم . ورواية الطبرسي في مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكتُمنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قال: قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء:
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 1004 ـ 1005 .
- (2) جواهر الكلام: 42 / 322 .
- (3) البقرة 2 : 228 .
(الصفحة 342)
الحيض ، والطهر ، والحمل(1) . وإن كانت ضعيفة من حيث السند إلاّ أنّ ضعفها منجبر بالشهرة المذكورة ، ولا أقلّ من كون الأخذ بقولها إلى اتّضاح الحال مقتضى الاحتياط الوجوبي ، كما في المتن ومثله .
الثالث: لو وضعت حملها ، فإن توقّف حياة الولد عليها إمّا من جهة اللّباء الذي حكي عن الشيخ(2) والعلاّمة(3) والشهيد(4) وغيرهم(5) أنّه لا يعيش الصّبي بدونه ، وإن كان الوجدان يشهد بخلافه إلاّ أن يراد به الغالب ، وهو يكفي في لزوم الرعاية; وإمّا من جهة انحصار غذائه بالأُمّ لعدم وجود ما يعيش به غيرها ، لا يجوز قتلها واستيفاء القصاص منها; لما ذكر في عدم الجواز مع الحمل من لزوم حفظ النفس المحترمة . نعم مع وجود ما يعيش به غيرها من ألبان الحيوانات أو المراضع الأُخر أو اللبن اليابس المتداول في هذه الأزمنة لا مانع من استيفاء القصاص ، وإن كان يمكن القول باستحباب الصبر; لئلاّ يفسد خلقه ونشؤه بالألبان المختلفة أو لبن غير الأُمّ الذي هو أوفق بطبعه وأنسب بمزاجه ، لكنّه لا يصل إلى حدّ المنع مع كون القصاص حقّاً للناس .
ثم في فرض انحصار غذائه بالأُمّ لو خالف واقتصّ من الأُمّ فمات الولد بعده هل يقتصّ من المقتصّ أم لا؟ قد حكي عن بعض(6) احتمال القصاص عليه لصدق قتله
- (1) مجمع البيان: 2 / 101 ، وسائل الشيعة: 15 / 441 ، كتاب الطلاق ، أبواب العدد ب 24 ح2 .
- (2) المبسوط : 7 / 59 .
- (3) قواعد الأحكام : 2 / 302 .
- (4) اللمعة الدمشقية: 120 .
- (5) الروضة البهية: 10 / 452 .
- (6) مسالك الأفهام: 15 / 253 .
(الصفحة 343)
التسبّبي، نحو ما لو حبس رجلاً ومنعه من الطعام أو الشراب حتّى مات جوعاً أو عطشاً.
ولكنّ الظاهر عدم ثبوت القتل في المقام ، فإنّ الموت مسبَّب عن عدم الغذاء ، ونفي موضوع الغذاء بالقصاص لا يوجب تحقَّق القتل . ألا ترى أنّه لو ترك المكلَّف إنقاذ الغريق مع القدرة عليه فمات الغريق بترك الإنقاذ لا يوجب ذلك تحقَّق القتل وإضافته إلى التارك للإنقاذ ، بل غاية الأمر عصيان التكليف الوجوبي المتعلّق بالإنقاذ. وكذلك لوسرق السارق طعام الغير المتوقّف عليه بقاءحياته لايوجب ذلك انطباق عنوان القاتل عليه ، إذا مات المسروق منه بسبب عدم الطعام ، وأمثال ذلك.
وممّا ذكرنا يظهر أنّه كما لا وجه لثبوت القصاص كذلك لا وجه للحكم بثبوت الدّية كما في الجواهر(1); لعدم تحقّق القتل أصلاً ، والموجب لها هو القتل مع كونه شبه عمد أو خطأ .
الرابع: ما عنونه في المتن بقوله: «ولو قتلت المرأة قصاصاً» ، والظاهر بقرينة قوله: «فبانت حاملاً» هو كون المقتصّ جاهلاً بالحمل حال القصاص ، إمّا لاعتقاده بالعدم ، أو لوجود مجرّد الاحتمال مع كون مقتضى الاستصحاب العدم لخلوّه عن الدعوى أيضاً ، كما أنّ الظاهر كون الحاكم الآذن جاهلاً أيضاً ، وعليه فالحكم بثبوت الدية بلحاظ قتل الحمل وإن كان ظاهراً ، إلاّ أنّ الحكم بثبوتها على الولي محلّ إشكال ، لأنّ القتل حينئذ يكون من قبيل قتل الخطأ الذي تكون الدية فيه على العاقلة ، إلاّ أن يكون المراد بما في المتن نفي الثبوت على بيت المال ، فالمراد بالوليّ هو الأعم منه ومن العاقلة . هذا في صورة جهلهما .
وأمّا صورة علمهما فالظاهر ثبوت الدية على الولي القاتل ، لتحقّق قتل العمد
- (1) جواهر الكلام: 42 / 323 .