(الصفحة 365)
الدية مطلقاً ، سواء أراد المجني عليه القصاص أم لم يرد ذلك ، فيرجع ذلك إلى نفي ثبوت القصاص في مورد السؤال . وقد استفاد الأصحاب من الرواية هذا المعنى ، ولذا أفتوا بخلاف ما هو مقتضى عموم دليل القصاص ، ولكنّ الظاهر أنّ ثبوت الإطلاق للرواية مبنيّ على كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، مع أنّه يحتمل قويّاً أن يكون المراد بيان مقدار دية اليد الشلاّء من غير نظر إلى ثبوت القصاص وعدمه ، وليس في السؤال ما يدلّ بظاهره على كون محطّه هو السؤال عن ثبوت القصاص وعدمه ، وإلاّ كان المناسب التعرّض لذلك لا تعيين مقدار الدية ، خصوصاً مع عدم التصريح في السؤال بكون يد القاطع صحيحة ، واستناد المشهور إلى الرواية وإن كان جابراً لضعفها ومخرجاً لها عن عدم الحجية إليها إلاّ أنّ فهم المشهور واستفادتهم من الرواية شيئاً لا دليل على حجيته بوجه .
ثالثها: رواية الحسن بن صالح قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن عبد قطع يد رجل حرّ وله ثلاث أصابع من يده شلل ، فقال: وما قيمة العبد؟ قلت: اجعلها ما شئت ، قال: إن كانت قيمة العبد أكثر من دية الإصبعين الصحيحتين والثلاث الأصابع الشلل ردّ الذي قطعت يده على مولى العبد ما فضل من القيمة وأخذ العبد ، وإن شاء أخذ قيمة الإصبعين الصحيحتين والثلاث الأصابع الشلل ، قلت : وكم قيمة الإصبعين الصحيحتين مع الكفّ والثلاث الأصابع الشلل؟ قال: قيمة الإصبعين الصحيحتين مع الكفّ ألفا درهم ; وقيمة الثلاث أصابع الشلل مع الكف ألف درهم ، لأنّها على الثلث من دية الصحاح ، قال: وإن كانت قيمة العبد أقلّ من دية الإصبعين الصحيحتين والثلاث الأصابع الشلل دفع العبد إلى الذي قطعت يده أو يفتديه مولاه ويأخذ العبد(1) .
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 253 ، أبواب ديات الأعضاء ب 28 ح2 .
(الصفحة 366)
وتقريب الاستدلال بها وكذا الجواب عنه ما تقدّم في الرواية السابقة ، ويؤيّد عدم كون الرواية متعرّضة للقصاص بوجه اشتمال اليد المقطوعة على إصبعين صحيحتين ، لأنّه من البعيد كون الثلاث الأصابع الشلل مانعاً عن جريان القصاص فيهما وكونهما محكومين بحكمها ، كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم تماميّة شيء من الاُمور الثلاثة التي استدلّ بها على أنّه لا تقطع اليد الصحيحة باليد الشلاّء ، وعليه فتصير المسألة مشكلة جدّاً من جهة ما ذكرنا ، ومن جهة أنّه لم يحك خلاف ولو من أحد في المسألة . وقد عرفت أنّ ظاهر الجواهر كون المسألة مفروغاً عنها عندهم ، ومقتضى الاحتياط أيضاً ما ذكره الأصحاب .
ثمّ إنّه يرد عليهم أنّه لو سلّمنا دلالة الروايتين فغاية مدلولهما عدم قطع اليد الصحيحة باليد الشلاّء ، وأمّا شمول الحكم لسائر الأعضاء والأطراف بحيث يستفاد منهما قاعدة كلّية وهي اعتبار التساوي في السلامة من الشلل ونحوه بحيث لا يجوز قطع الرجل الصحيحة بالرجل العرجاء كما مثّلنا به أيضاً في أوّل البحث فلا شاهد له ، لأنّه بعد كون الحكم في الروايتين على خلاف القاعدة المقتضية للقصاص فاللاّزم الاقتصار على خصوص موردهما كما في نظائر المسألة ، وعلى ما ذكرنا تصير توسعة الحكم كأصله مورداً للإشكال أيضاً ، فتدبّر .
ثم إنّه وقع في المتن ونحوه تعميم الحكم بعدم جواز قطع الصحيحة بالشلاّء لصورة ما إذا بذلها الجاني أيضاً ، والغرض إنّ بذل الجاني ورضاه بالقطع لا يؤثِّر في الجواز ، فإنّه كما لا يجوز للإنسان أن يقطع شيئاً من أعضاء بدنه كذلك لا يجوز له بذله لقطع غيره مع عدم كون القطع مجازاً ومشروعاً ، وفي المقام يكون الثابت خصوص الدية . ومنه يظهر عدم استيفائه بغيرها ولا يكون البذل مؤثِّراً في تحقّق
(الصفحة 367)مسألة 5 ـ المراد بالشلل هو يبس اليد بحيث تخرج عن الطاعة ولم تعمل عملها ولو بقى فيها حسّ وحركة غير اختيارية ، والتشخيص موكول إلى العرف كسائر الموضوعات ، ولو قطع يداً بعض أصابعها شلاّء ففي قصاص اليد الصحيحة تردّد ، ولا أثر للتفاوت بالبطش ونحوه فتقطع اليد القوية بالضعيفة ، واليد السالمة باليد البرصاء والمجروحة1..
الاستيفاء ، كما أنّه لا يبعد دعوى ثبوت القصاص مع قطع يد الجاني الصحيحة ، لأنّه قطع عدواني موجب للقصاص ، إلاّ أن يقال : بأنّ البذل الملازم للرضا بقطعه من دون قصاص يمنع عن ثبوته ، فتدبّر .
بقي في المسألة أمر واحد ، وهو أنّه لا مانع من قطع اليد الشلاء بالصحيحة ; لعدم اقتضاء شيء من الأدلّة اعتبار التساوي في السلامة من الشلل في كلّ من الطرفين ، بل غاية مفادها اعتباره من ناحية المقتصّ منه ، وعليه فمقتضى عموم دليل القصاص ثبوته هنا . والظاهر أنّه لا يضمّ إليها أرش ، كما في اقتصاص وليّ الرجل من المرأة في باب القتل . وما في جملة من الروايات من أنّ الجاني لا يجني على أكثر من نفسه(1) يجري في المقام أيضاً .
ثم إنّه وقع استدراك هذا الحكم في مثل المتن ، بما لو حكم أهل الخبرة بالسراية بل خيف منها بالاحتمال العقلائي المعتدّ به ، والوجه فيه لزوم التحفّظ على النفس التي هي أهمّ من الطرف في الشرع ، فاللاّزم الرجوع إلى الدية . والظاهر سقوط القطع في هذه الصورة في باب الحدود أيضاً ، كالسرقة والمحاربة .
1 ـ غير خفيّ أنّ عنوان «الشلل» المأخوذ في النصّ والفتوى ، إنّما هو كسائر
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 59 و61 و62 ، أبواب القصاص في النفس ب 33 ح1 و10 و18 .
(الصفحة 368)
العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام يرجع في معناه إلى العرف ، فالتشخيص موكول إليه فقط ، وعليه فالظاهر أنّ معناه عند العرف هو الحدّ المتوسط بين موت اليد الذي يوجب عدم تحقّق شيء من آثار الحياة فيها ، وبين ضعفها الموجب لثبوت حركة ضعيفة فيها ، فمعناه هو ما في المتن من اليبس بحيث تخرج عن الطاعة ولم تعمل عملها ، ولو بقي فيها حسّ وحركة اختيارية .
ثم إنّه لو قطع يداً ـ أي كفّاً مشتملاً على الأصابع ـ لكن كان بعض الأصابع شللاً ، ففي محكيّ القواعد(1) وكشف اللثام(2) بل المبسوط(3) انّه لم يقتصّ من الجاني الصحيح الأصابع في الكفّ ، بل في أربع أصابع الصحيحة ، ويؤخذ منه ثلث دية اصبع صحيحة عوضاً عن الشلاء ، وحكومة ما تحتها وما تحت الأصابع الأربع من الكفّ .
أقول: قد ورد في هذا الفرع رواية حسن بن صالح المتقدّمة في المسألة السابقة ، فإن عملنا بتلك الرواية وقلنا بظهورها في نفي القصاص ، فاللاّزم الحكم بعدم ثبوت القصاص في الأصابع الصحيحة أيضاً ; لدلالتها عليه على هذا الفرض ، وإلاّ فلا دليل على عدم ثبوت القصاص حتّى في الكفّ أيضاً ، لأنّ كون بعض الأصابع شلاّء لا يقتضي صدق كون اليد كذلك ، والمأخوذ في الفتوى والنصّ المتقدّم وهي رواية سليمان بن خالد هو اليد الشلاّء .
وأمّا الترديد في المتن في أصل القصاص في اليد في هذه الصورة فلعلّ منشأه الترديد في العمل برواية ابن صالح أو الترديد في شمول رواية ابن خالد ، فتدبّر .
- (1) قواعد الأحكام: 2 / 303 .
- (2) كشف اللثام: 2 / 471 .
- (3) المبسوط : 7 / 84 ـ 85 .
(الصفحة 369)مسألة 6 ـ يعتبر التساوي في المحلّ مع وجوده ، فتقطع اليمين باليمين واليسار باليسار ، ولو لم يكن له يمين وقطع اليمين قطعت يساره ، ولو لم يكن له يد أصلاً قطعت رجله على رواية معمول بها ولا بأس به ، وهل تقدّم الرجل اليمنى في قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في اليد اليسرى أو هما سواء؟ وجهان ، ولو قطع اليسرى ولم يكن له اليسرى فالظاهر قطع اليمنى على إشكال ومع عدمهما قطع الرجل ، ولو قطع الرجل من لا رجل له فهل يقطع يده بدل الرجل؟ فيه وجه لا يخلو من إشكال ، والتعدّي إلى مطلق الأعضاء كالعين والأذن والحاجب وغيرها مشكل ، وإن لا يخلو من وجه ، سيّما اليسرى من كلّ باليمنى1..
ثمّ إنّك عرفت أنّ المستثنى هو خصوص الشلل ، وعليه فكون اليد المجنيّ عليها برصاء أو مجروحة أو ضعيفة في مقابل الأبطش لا يمنع عن ثبوت القصاص أصلاً .
1 ـ أمّا أصل اعتبار التساوي في المحلّ مع وجوده في الجملة فلا خلاف فيه ، بل ربّما ظهر من محكي الخلاف نفيه بين المسلمين(1) ، بل في كشف اللثام الاتّفاق عليه(2) ، وعليه فتقطع اليد اليمنى باليد اليمنى واليسرى باليسرى .
ولو لم يكن له يمين وقطع اليمين قطعت يساره ، كما عن الأكثر ، بل المشهور(3)، بل عن الخلاف والغنية إجماع الفرقة وأخبارهم(4) ، ولو لم يكن له يمين
- (1) الخلاف: 5 / 193 مسألة 59 .
- (2) كشف اللثام: 2 / 471 .
- (3) النهاية: 771 ، الكافي في الفقه: 389 ، المهذّب: 2 / 479 ـ 480 ، مختلف الشيعة: 9/403 ـ 404 مسألة 79 .
- وقد نسب هذا الترتيب الشهيد الثاني في المسالك: 15 / 271 إلى الأكثر ، وقال الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ج14 / 111 : انّه مشهور .
- (4) غنية النزوع: 410 .