(الصفحة 438)
والفتاوى ، فإنّ ظاهرها فعليّة الحقّ بتحقّق الجناية ، والاندمال لا يكشف عن عدمه ، ومع ثبوته وفعليّته يجوز إسقاطه من صاحبه .
ولو قال في هذا الفرض في مورد العمد: عفوت عن الدية لا أثر له ، لما عرفت من أنّه مع تحقّق موجب القصاص يكون الحكم المترتّب عليه هو القصاص بنحو التعيّن لا الدية ، ولا التخيير بين القصاص وبين الدية . وعرفت أيضاً أنّ الانتقال إلى الدية إنّما هو في صورة التراضي وتحقّق المصالحة ، فالحقّ الثابت ابتداءً هو القصاص ، وعليه فلا مجال للعفو عن الدية في مورده ، ويترتّب على ما ذكرنا أنّه لو قال في هذا لمورد عفوت عن القصاص ، يترتّب عليه سقوط القصاص بلا شبهة ، لأنّه حقّ فعليّ ثابت له ، وبتبعه يسقط الدية أيضاً ، لأنّ ثبوتها كان بعنوان المصالحة عنه ووقوعها عوضاً ، ومع سقوطه لا يبقى للمعاوضة والمصالحة مجال ، كما لا يخفى .
وأمّا فيما إذا تحقّق بعد العفو عن القطع أو الجناية السراية إلى الكفّ بحيث لم يكن في حال العفو سراية بوجه ، فلا إشكال ولا خلاف في تأثير العفو في سقوط حقّ القصاص بالإضافة إلى الإصبع المقطوعة ، لثبوته فعلاً ، كما أنّه لا معنى لدعوى سراية العفو إلى السراية المتحقّقة بعده ، لكون السراية غير متحقّقة حال العفو أوّلاً ، وكون المعفوّ هو القطع أو الجناية ، والسراية ليست بقطع ، ولا تلك الجناية ، بل هي كالجناية الجديدة ثانياً .
وعليه فالسراية مضمونة، وحينئذ يقع الكلام بعد سقوط حق القصاص في الإصبع وضمان السراية الحادثة بعد العفو ، في أنّه يجوز له الاقتصاص في الكفّ المستلزم لقطع الإصبع المعفوّ عنها ، غاية الأمر يجب عليه ردّ دية تلك الإصبع إلى الجاني ، لتحقّق العفو بالإضافة اليه ، أو أنّه ينتقل إلى الدية ، ولا يبقى مجال للاقتصاص في الكف؟
(الصفحة 439)
ظاهر الأصحاب هو الثاني ، وقد صرّح به المحقّق في الشرائع(1) ، وكذا في محكيّ المسالك(2) والإرشاد(3) والروض(4) ومجمع البرهان(5) ، بل حكي عن الشيخ في المبسوط(6) أيضاً . والوجه فيه أنّ في قطع الكفّ تغريراً بالإصبع المعفوّ عنها فيسقط القصاص فيه ، لكونه كقطع كفّ كامل بناقص ، ولكن قد عرفت أنّ المستفاد من بعض الروايات(7) جواز القطع له مع ردّ دية الإصبع المعفوّ عنها ، ولكن حيث أنّ الأصحاب لم يتعدّوا عن مورده ، بل كلماتهم في الموارد مختلفة ومضطربة ، حيث يظهر التعدّي في بعض الموارد وعدم التعدّي في البعض الآخر ، فلا مساغ للعدول عمّا هو مقتضى القاعدة ، وعليه فالأرجح هو القول الثاني مع أنّه أحوط ، كما في المتن .
وأمّا إذا تحقّق العفو عن القصاص أو الجناية ، ثم سرت الجناية إلى النفس فلا شبهة في عدم تأثير العفو المزبور في سقوط القصاص بالإضافة إلى النفس ، لعدم تعرّض للعفو للشمول للقصاص في النفس ، لأنّ المفروض كون المعفوّ عنه هو القصاص أو الجناية ، والسراية حادثة بعده . والمحكي عن الأردبيلي (قدس سره)احتمال سقوط القصاص ، لأنّه قد عفى عن هذه الجناية ، فصار ما ثبت لها ساقطاً ، وباقي أثرها معفوّ عنه غير مضمون حينئذ ، لأنّ المتبادر من العفو عن الجناية العفو عنها
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 1014 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 308 .
- (3) إرشاد الأذهان: 2 / 212 .
- (4) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 11 / 155 .
- (5) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 140 .
- (6) المبسوط: 7 / 109 .
- (7) مرّ في ص359 ـ 360 .
(الصفحة 440)
وعن جميع لوازمها . قال: وهذا يجري في الكفّ ، نعم لو قيل : إنّه لو علم أنّ المراد العفو عن الواقع فقط أو أنّ العفو عن السراية لم يصحّ، اتّجه ذلك ، وإلاّ ففيه تأمّل(1) .
ويرد عليه أنّه إن أراد شمول العفو للسراية أيضاً فمن الواضح خلافه ; لعدم وجه للشمول بعد عدم كون السراية متحقّقة في حال العفو ، والعفو عن الجناية الجزئية لا يستلزم العفو عن الجناية الكلّية وهي النفس . وإن أراد أنّ دليل ضمان السراية إنّما يكون موردها ما إذا كان أصل الجناية مضمونة ، فبعد العفو عنه لا مجال لشمول دليل ضمان السراية ، خصوصاً لو قلنا بأنّ الدليل عليه هو الإجماع الذي يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، فيرد عليه وضوح كون أصل الجناية في المقام مضمونة ، غاية الأمر سقوط الضمان بالعفو ، وعليه فمقتضى كون السراية مضمونة ثبوت حقّ القصاص بالإضافة إلى النفس ، فتدبّر .
وبعد ثبوت حقّ الاقتصاص بالنسبة إليها هل يجب على المقتصّ ردّدية الإصبع المعفوّ عن قصاصها أوجنايتها كما صرّح به المحقّق في الشرائع(2) أو لا؟ وفي المتن تبعاً للقواعد(3) وفخر المحقّقين(4) والشهيد(5) والمقدس الأردبيلي(6) الإشكال فيه ، بل في المتن المنع ، ولعلّ الوجه فيه ما عرفت من دخول الطرف في النفس ، فهو كقتل كامل بمن قطع يده غيره أو تلف بآفة ، أو أنّه بعفوه عنه كانّه اقتصّ منه ، فكما لا
- (1) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 141 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 1014 .
- (3) قواعد الأحكام: 2 / 306 .
- (4) إيضاح الفوائد: 4 / 640 .
- (5) غاية المراد: 382 (مخطوط) .
- (6) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 141 .
(الصفحة 441)
يغرم لو سرى الجرح بعد اقتصاصه عوضه فيقتله بالسراية من غير ردّ لما استوفاه فكذا المقام . وفي الجواهر بعد ذكر الوجهين : إلاّ انّهما معاً كما ترى(1) .
والوجه فيه عدم كون الطرف داخلاً في النفس بصورة الإطلاق ، بل قد تقدّم فيه التفصيل(2) وعدم كون العفو بمنزلة القصاص في جميع الآثار ، والمسألة مشكلة ، ومقتضى الاحتياط هو الردّ .
بقي الكلام في هذا الفرع فيما لو عفا عن الجناية والسراية معاً ، فإن كان العفو في حال تحقّق السراية كما في السراية إلى الكفّ بعد تحقّقها ، فلا إشكال في صحّته وسقوط حكم الجناية والسراية معاً .
وإن كان في حال عدم تحقّقها فالمسألة خلافية . فعن الشيخ في الخلاف(3)الصحّة ، بل عن الشهيدين في غاية المراد(4) والروض(5) والمقدس الأردبيلي في مجمع البرهان(6) الميل أو القول إليها ، والمحكي عن أبي علي(7) والشيخ في المبسوط(8) والعلاّمة(9) وولده(10) وغيرهم(11) عدم الصحّة ، واختاره
- (1) جواهر الكلام: 42 /427 .
- (2) تقدّم في ص90 ـ 94 .
- (3) الخلاف : 5 / 208 مسألة 86 .
- (4) غاية المراد: 382 (مخطوط) .
- (5) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 11 / 157 .
- (6) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 142 ـ 143 .
- (7) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9 / 456 مسألة 135 .
- (8) المبسوط : 7 / 110 .
- (9) إرشاد الأذهان: 2 / 212 ، مختلف الشيعة: 9 / 457 مسألة 135 .
- (10) إيضاح الفوائد: 4 / 641 .
- (11) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 15 / 309 .
(الصفحة 442)
صاحب الجواهر(1) .
وعمدة ما يستدلّ به عليه أنّه إبراء ممّا لا يجب ، وأنّه إسقاط لحقّ الغير وهو الوليّ ، نظراً إلى أنّ القصاص إنّما يكون مجعولاً للوارث ، كما هو ظاهر قوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَد جَعَلنَا لِولِيِّهِ سُلطَاناً}(2) ، فإنّ ظاهره جعل السلطنة ابتداء للوارث من دون أن يكون منتقلاً إليه من المورِّث ، كسائر ما تركه من مال أو حقّ ، بل ومثل القصاص الدية وإن تعلّقت بها وصاياه وديونه ، للدليل .
وعليه فلا مجال لجعل العفو المفروض من مصاديق الوصيّة للقاتل ، وإن حكي عن الشيخ في الخلاف أنّه قال: يصحّ العفو عنها وعمّا يحدث عنها ، فلو سرت كان عفوه ماضياً من الثلث ، لأنّه بمنزلة الوصية(3) . وذلك لأنّ مورد الوصية إنّما هو مال الميّت أو حقّه ، وبعد عدم كون القصاص حقّاً له بوجه لا يبقى وجه للحكم بكونه وصية يترتّب عليه أحكامها .
هذا ، ولكنّ الظاهر الذي يساعد الاعتبار أنّ حقّ القصاص إنّما يكون للميّت ابتداء ، لأنّه عوض نفسه ، كما أنّ حقّ الاقتصاص في الطرف ثابت للمجنيّ عليه ، غاية الأمر إنّ الفرق بينهما هو إمكان استيفاء الحقّ في الثاني للمجنيّ عليه وعدم إمكانه في الأوّل له ، ولأجله ينتقل إلى الوارث خصوصاً مع ما ذكرنا من أنّ المراد بالوليّ هو الوارث ، وخروج الزوج والزوجة أو المتقرّب بالاُمّ مطلقاً أو خصوص الإخوة والأخوات ـ كما مرّ البحث فيه(4) ـ لا ينافي ذلك ، كخروج الزوجة عن إرث
- (1) جواهر الكلام: 42 / 430 .
- (2) الإسراء 17 : 33 .
- (3) الخلاف : 5 / 208 مسألة 86 .
- (4) مرّ في ص290 ـ 292 .