(الصفحة 185)
عدم اختصاص هذا الحكم بالأعمى ، بل المبصر أيضاً تكون جنايته الصادرة في حال الخطأ على العاقلة ـ أنّ الرواية صريحة في الاستدلال على نفي القود الذي موضوعه القتل العمدي الصادر من الأعمى ، ولا معنى لجعل الكبرى هو كون جناية الأعمى الصادرة في حال الخطأ على عهدة العاقلة . وحمل قوله في السؤال: «فوثب» على صورة الخطأ خطأ واضح ، فلا ينبغي الارتياب في ظهور جملة «الأعمى جنايته خطأ» بل صراحتها في أنّ عمد الأعمى خطأ ، ويترتّب عليه لزوم الدية على العاقلة ، وأنّه لا قصاص فيه بوجه .
الثانية: رواية أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمى فقأ عين صحيح ، فقال: إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الدية في ماله ، فان لم يكن له مال فالدية على الإمام ، ولا يبطل حقّ امرئ مسلم(1) .
ورمي الرواية بضعف السند ـ كما في المسالك(2) ـ أيضاً لا يكون له منشأ إلاّ وجود عمّار الساباطي في السند ، مع أنّه ثقة ، بل من أجلّ الثقات ، فلا مجال لهذا أصلاً .
وأمّا الدلالة فلو كان الجواب مشتملاً على الحكم بثبوت الدية في مورد الرواية لما كان يستفاد منه العدم في جميع موارد جناية الأعمى عمداً; لعدم إمكان القصاص في مورد الرواية كما هو الظّاهر ، وأمّا الجواب بمثل ما ذكر في الرواية ، فهو يدلّ على عدم القصاص في الأعمى مطلقاً ، لإفادته قاعدة كلية ، وهو أنّ عمد الأعمى خطأ ، فإنّ ظاهره شمول الحكم لجميع موارد عمده ، فتدلّ على عدم ثبوت
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 65 ، أبواب القصاص في النفس ب 35 ح1 .
- (2) مسالك الأفهام: 15 / 167 ـ 168 .
(الصفحة 186)الشرط السادس: أن يكون المقتول محقون الدم ، فلو قتل من كان مهدور الدم كالساب للنبي(صلى الله عليه وآله) فليس عليه القود ، وكذا لا قود على من قتله بحقّ كالقصاص والقتل دفاعاً ، وفي القود على قتل من وجب قتله حدّاً كاللاّئط .
القصاص فيه .
وقد انقدح ممّا ذكرنا تمامية الروايتين من جهة إفادة عدم القصاص في الأعمى ، ولكن يبقى في البين أمران:
أحدهما: ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) في محكي المسالك(1) من ثبوت الاختلاف بين الرّوايتين ، نظراً إلى اشتمال الأُولى على كون الدية تجب ابتداء على العاقلة ، ومع عدمها تجب على الجاني; واشتمال الثانية على كون الدية تجب على الجاني دون العاقلة ، ومع عدم مال له تثبت على الامام .
ويدفعه أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو بنحو الإطلاق والتقييد الذي لا يكون في الحقيقة اختلافاً ، لوجود الجمع الدلالي عرفاً بينهما ، فيقيّد الحكم بالثبوت على الجاني في الثانية بما إذا لم يكن للأعمى عاقلة ، بشهادة الرّواية الأُولى التي وقع فيها هذا القيد ، كما أنه يستفاد من الثانية ثبوت الدية على الإمام إذا لم يكن للجاني مال ، فيقيّد به إطلاق الأولى لو كان لها إطلاق ، من دون أن يكون بينهما اختلاف بوجه .
ثانيهما: أنّه على تقدير عدم الاختلاف وثبوت الجمع بالنحو المذكور ، يصير حاصل مفاد الروايتين ثبوت الدية على العاقلة أوّلاً ، وعلى الجاني ثانياً ، وعلى الإمام ثالثاً; مع أنّ الشهرة على خلافه ، لعدم كون حكم الخطأ الثبوت على الجاني بعد عدم العاقلة ، فتصير الروايتان معرَضاً عنهما ، فكيف يجوز الاعتماد عليهما .
- (1) مسالك الأفهام: 15 / 168 .
(الصفحة 187)والزاني والمرتدّ فطرة بعد التوبة تأمّل وإشكال ، ولا قود على من هلك بسراية القصاص أو الحدّ1..
ويمكن دفعه أيضاً بأنّ إعراض المشهور عن هذه الجهة لا يقدح فيما هو محلّ البحث في المقام ، وهو ثبوت القصاص وعدمه ، وقد عرفت دلالتهما على العدم ، ولم يتحقّق إعراض المشهور عن هذه الجهة ، بل ربّما تكون الشهرة موافقة لهما ، كما عرفت في نقل القولين(1) ، ولعلّ ما ذكر هو وجه تردّد المتن ، ولكنّ الظّاهر أنّه لا مساغ لرفع اليد عن مقتضى الروايتين مع اعتبارهما من حيث الدلالة ، خصوصاً مع كون مقتضى الاحتياط ذلك أيضاً .
1 ـ قد مرّ في أوّل الكتاب الإشكال على المتن ، ومثله في تعريف موجب القصاص بأنّ الجمع بين توصيف النفس بالمعصومة ، مع جعل أحد الشرائط كون المقتول محقون الدم ممّا لا وجه له ، لكون المراد منهما أمراً واحداً ، كما هو ظاهر .
وكيف كان فلا إشكال في أنّه لو كان المقتول مهدور الدم مطلقاً ولكلّ أحد ، كالسابّ للنبيّ(صلى الله عليه وآله) لا يترتّب على قتله قصاص ولو كان قتله عمداً ، كما أنّه لا إشكال في عدم ثبوت القود بالإضافة إلى ورثة المقتول إذا اختاروا القصاص وقتلوا القاتل . ففي صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: سألته عن رجل قتله القصاص له دية؟ فقال: لو كان ذلك لم يقتصّ من أحد . وقال: من قتله الحدّ فلا دية له(2) .
فإنّ السؤال وإن كان عن ثبوت الدية لمن قتله القصاص ، إلاّ أنّ الاستدلال في
- (1) تقدّم في ص183 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 46 ، أبواب القصاص في النفس ب 24 ح1 .
(الصفحة 188)
الجواب ظاهر في عدم ثبوت القصاص لَه أيضاً ، والروايات الدالّة على نفي الدية لمن قتله القصاص ، الظاهرة في عدم ثبوت القصاص له أيضاً ، بل بطريق أولى ، بل ربّما يستشعر منه مفروغية عدم القصاص كثيرة .
ولا إشكال أيضاً في عدم ثبوت القود لمن قتله الحدّ ، كما يدلّ عليه الصحيحة المزبورة والروايات الكثيرة الدالّة على أنّه أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له . وفي رواية أبي العبّاس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عمّن أُقيم عليه الحدّ ، أيقاد منه أو تؤدّى ديته؟ قال: لا إلاّ أن يزاد على القود(1) . ويستفاد من هذه الرواية عدم ثبوت القصاص ولا الدية لمن قتله الحدّ أو القصاص ، فتدبّر .
وكذا لا إشكال في أنّ الدافع القاتل للمهاجم الذي أراده لا يترتّب على قتله شيء من القصاص ولا الدية ، لدلالة الرّوايات الواردة فيه على أنّه لا شيء عليه ، وفي بعضها التعبير بأنّ دمه هدر(2) .
وكذا لا إشكال في عدم ثبوت القصاص لمن هلك بسراية القصاص أو الحدّ ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى إطلاق مثل قوله (عليه السلام) : أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له(3) ، لأنّه أعمّ ممّا إذا كان الحدّ أو القصاص موجباً للقتل ، أو كان القتل بالسراية ـ رواية محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل ولا جراحة(4) .
فإنّ قوله (عليه السلام) : «في قتل ولا جراحة» قرينة على عموم قوله : «من قتله
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 47 ، أبواب القصاص في النفس ب 24 ح7 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 42 ـ 44 ، أبواب القصاص في النفس ب 22 .
- (3) وسائل الشيعة: 19 / 47 ، أبواب القصاص في النفس ب 24 ح9 .
- (4) وسائل الشيعة: 19 / 47 ، أبواب القصاص في النفس ب 24 ح8 .
(الصفحة 189)
القصاص» ، كما لايخفى .
هذه هي الموارد التي لا إشكال في عدم ثبوت القصاص فيها ، وهنا موارد لاينبغي الإشكال في ثبوت القصاص فيها . مثل ما إذا تعرّض لقتل القاتل الذي عليه القصاص غير ورثة المقتول من دون إذن ولا وكالة ، فإنّ الظاهر ثبوت القصاص بالإضافة إلى القاتل الأجنبي ، وإن كان المقتول مستحقّاً للقصاص بالنسبة إلى ورثة المقتول أوّلاً .
ومثل ما إذا تعرّض لقتل المهاجم في مسألة الدفع غير الدافع الذي وقع مورداً للتهاجم ، فإنّ المهاجم بالإضافة إلى غير الدافع لا يكون مهدور الدم بوجه ، ولا يشرع قتله كذلك ، وعليه فقتله موجب للقصاص .
إنّما الإشكال والكلام فيمن وجب قتله حدّاً كالزاني المحصن واللائط وغيرهما ، وأنّه هل يكون قتله من دون مراجعة الحاكم والإستئذان منه موجباً للقصاص أم لا؟ وفي الجواهر: ليس في شيء ممّا وصل إلينا من النصوص تعرّض لذلك ، فضلاً عن تواترها ، نعم ظاهر الأصحاب الاتفاق على ذلك بالنسبة للمسلم(1) . وقد أشار بذلك إلى الإشكال على صاحب الرياض ، حيث إنّه بعد الاستدلال بالإجماع الظاهر المصرَّح به في كثير من العبائر كالغنية(2) والسرائر(3) استدلّ بالاعتبار والمعتبرة المستفيضة التي كادت تبلغ التواتر(4) ، وأورد منها رواية أبي الصباح الكناني المتقدّمة ، مع وضوح عدم تعرّضها لهذه المسألة .
- (1) جواهر الكلام: 42 / 192 .
- (2) غنية النزوع: 403 .
- (3) السرائر: 3 / 324 .
- (4) رياض المسائل: 10 / 301 ـ 302 .