(الصفحة 346)
وبالجملة: الظاهر أنّه لا دليل على لزوم التأخير على وليّ المقتول ، فلو قتله قبل القطع لا يترتّب عليه إثم ، كما لا يترتّب عليه ضمان ، على ما عرفت .
الثاني: ما لو سرى القطع في المجنيّ عليه ، وفيه صورتان:
الاُولى: ما إذا كانت السراية قبل القصاص بحيث تحقّقت السراية في حال حياة الجاني ، وحيث إنّ السراية في هذا الحال تكون مضمونة على ما مرّ سابقاً ، فاللاّزم حينئذ ثبوت قصاص النفس بالإضافة إلى القطع أيضاً ، فيصير كما لو قتل رجلين حيث يستحقّ كلّ واحد من الوليّين القصاص في النفس .
الثانية: ما إذا كانت السراية بعد القصاص وموت القاتل وتحقّق القصاص في اليد ، والمذكور في الجواهر(1) أنّ فيه أقوالاً ثلاثة:
أحدها: ما حكي عن المبسوط(2) وظاهر المحقّق في الشرائع(3) من أنّه يثبت لوليّ المقطوع نصف الدية من تركة الجاني ، لأنّ قطع اليد بدل عن نصف الدية ، فيثبت النصف الآخر بالسراية .
ثانيها: إنّ لوليّ المقتول بالسراية الرجوع بالدية أجمع ، لأنّ للنفس دية على انفرادها ، والذي استوفاه في العمد وقع قصاصاً فلا يتداخل . وحكي عن العلاّمة في التحرير(4) انّه اختار هذا القول ، وعن كشف اللّثام انّه المشهور(5) .
ثالثها: ما استظهره في المتن تبعاً للجواهر ، من أنّه لا يثبت للولي في تركة
- (1) جواهر الكلام: 42 / 325 ـ 326 .
- (2) المبسوط : 7 / 63 .
- (3) شرائع الإسلام: 4 / 1005 .
- (4) تحرير الأحكام: 2 / 256 ـ 257 .
- (5) كشف اللثام: 2 / 469 ـ 470 .
(الصفحة 347)مسألة 25 ـ لو هلك قاتل العمد سقط القصاص بل والدّية ، نعم لو هرب فلم يقدر عليه حتّى مات ففي رواية معمول بها إن كان له مال أخذ منه وإلاّ أخذ من الأقرب فالأقرب ، ولا بأس به لكن يقتصر على موردها1..
الجاني شيء ، لأنّ الدية لا تثبت في العمد إلاّ صلحاً ، والمفروض عدمه ، والقصاص قد فات محلّه ، والأولى الاستدلال عليه بأنّ الدليل على ضمان السراية على ما عرفت هو الإجماع ، ولم يتحقّق ثبوته مع وقوع السراية بعد موت الجاني ، فعدم ثبوت الدية لعدم تحقّق موجبها وعدم الدليل على ضمانها ، وهذا القول هو الظاهر .
الثالث: لا إشكال بمقتضى ضمان السراية في أنّه لو قطع يد رجل فسرت حتّى انجرّت إلى الموت في ثبوت قصاص النفس وعدم موضوع لقصاص الطرف ، كما أنّه لا إشكال في هذه الصورة في عدم ثبوت قصاصين بعد كون الجناية واحدة ، بخلاف ما إذا قطع يد رجل وقتل رجلاً آخر ، كما لا يخفى .
إنّما الإشكال في الفرض المذكور فيما إذا تحقّق قصاص الطرف ، ثم سرت وانجرّت إلى الموت ، والظاهر بمقتضى ضمان السراية ثبوت القصاص في النفس . ولا ينافيه القصاص الذي وقع أوّلاً ، لعدم كونه مانعاً عن ضمان السراية بوجه ، وإن كان لولاه لما كان هناك إلاّ قصاص النفس فقط كما عرفت ، إلاّ أنّه مع وجوده لا دليل على ارتفاع ضمان النفس ، وكون الجناية واحدة لا تقتضي ذلك ، كما إذا قطع بضربة واحدة اليد والرجل معاً .
1 ـ أمّا سقوط القصاص فلانتفاء موضوعه بالهلاك، وأمّا سقوط الدية فقد وقع الخلاف فيه، فالمحكيّ عن مبسوط الشيخ هو السقوط، بل قال أنّه الذي يقتضيه
(الصفحة 348)
مذهبنا(1). وكذا حكي ذلك عن ابن إدريس(2) والمحقّق الكركي(3) وظاهر العلاّمة في المختلف(4) وغاية المراد(5) ومجمع البرهان(6) وبعض آخر(7) . لكن المحكي عن العلاّمة في كثير من كتبه(8) وجوبها في تركة الجاني ، بل قيل: إنّه خيرة الخلاف في أوّل كلامه(9) . والبحث فيه تارة من جهة ما هو مقتضى القواعد العامّة والأدلّة الكلّية الواردة في القصاص ، وأُخرى من جهة بعض الروايات الواردة في بعض فروض المسألة .
أمّا من الجهة الأُولى ، فالدليل على السقوط ما تقدّم من أنّ الثابت في قتل العمد هو القصاص بنحو التعيّن ، والانتقال إلى الدية إنّما هو في طول القصاص ومتوقّف على رضى القاتل أيضاً ، فإنّه إذا بذل نفسه لوليّ المقتول لا يكون له غيرها ، ولا يجوز إجباره على أداء الدية . وعلى ما ذكر فما هو الثابت بقتل العمد قد انتفى موضوعه بالهلاك ، والدّية لم تكن ثابتة حتى تبقى وتتعيّن بانتفاء موضوع القصاص ، والشرط وهو رضا القاتل لا يمكن أن يتحقّق ، فلا وجه لثبوتها .
ولكنّه ربّما يستدلّ على الثبوت بقوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلنَا لِوَلِيِّهِ
- (1) المبسوط : 7 / 65 .
- (2) السرائر: 3 / 329 ـ 330 .
- (3) في جامع المقاصد: 5 / 394 خلافه ، حيث قال: «وجبت الدية كما لو هرب القاتل عمداً أو مات» .
- (4) ظاهره بل صريحه في المختلف: 9 / 298 ـ 299 مسألة 9 ، ثبوت الدية .
- (5) غاية المراد: 360 ـ 361 .
- (6) مجمع الفائدة والبرهان: 13 / 412 .
- (7) كشف الرموز: 2 / 622 .
- (8) كتبصرة المتعلّمين: 198 وإرشاد الأذهان: 2 / 198 ومختلف الشيعة: 9 / 298 ـ 299 مسألة 9 .
- (9) الخلاف: 5 / 184 ـ 185 مسألة 50 .
(الصفحة 349)
سُلطَاناً}(1) ، نظراً إلى أنّ الحكم بسقوط الدية أيضاً مستلزم لسلب سلطانه مطلقاً ، وبما ورد في الروايات المتقدّمة من قولهم (عليهم السلام) : «لا يبطل دم امرىء مسلم»(2) ، وبأنّه كمن قطع يد رجل ولا يد له ، فانّ عليه الدية فكذا النفس .
ويرد على الأوّل ظهور كون المراد من السلطان في الآية هو السلطان على القتل ، ويدلّ عليه تفريع قوله تعالى:
{فَلاَ يُسْرِف فِي القَتلِ} ، وعليه فهذه الآية إنّما تكون كسائر آيات القصاص ، ولا تعرّض فيها لمسألة الدية بوجه .
وعلى الثاني ـ مضافاً إلى منع اقتضائه لثبوت الدّية في مال الجاني ، بل يمكن أن تكون ثابتة في بيت المال ، ويؤيّده وقوعه تعليلاً في كثير من الروايات للحكم بالثبوت في بيت المال ، وعليه فلا ينطبق الدليل على المدّعى ـ أنّه لا يعلم شموله للمقام الذي كان الجاني باذلاً نفسه للقصاص ، وقد تمهّدت مقدّماته ، لكن الموت العارض للقاتل منع عن تحقّقه ، فتدبّر .
وعلى الثالث أنّه قياس ، مضافاً إلى كونه مع الفارق ، لوجود الجاني في المقيس عليه وكون أداء الدية من ماله ، وهذا بخلاف المقام الذي يكون الأداء من مال الوارث ، فافهم .
وأمّا من الجهة الثانية ، فقد روى الكليني عن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً متعمّداً ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه ، قال: إن كان له مال أُخذت الدية من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب ، فإن لم
- (1) الإسراء 17: 33 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 52 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 29 ح1 وب 46 ح2 وص104 أبواب دعوى القتل ب 2 ح1 وص109 ب 6 ح1 وص111 ب 8 ح 3 ، وغيرها من الروايات .
(الصفحة 350)
يكن له قرابة أدّاه الإمام ، فإنّه لا يبطل دم امرىء مسلم . ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ظريف بن ناصح ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله إلى قوله: الأقرب فالأقرب(1) .
وروى ابن أبي نصر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قتل رجلاً عمداً ثم فرّ فلم يقدر عليه حتّى مات ، قال: إن كان له مال أُخذ منه ، وإلاّ أخذ من الأقرب فالأقرب(2) . وحيث إنّ ابن أبي نصر البزنطي لا يمكن له النقل عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) من دون واسطة فلابدّ إمّا أن يلتزم بكون الرواية مرسلة ، وإمّا أن يقال بأنّ المراد هو أبو جعفر الجواد (عليه السلام) .
والبحث في الروايات يقع من جهات:
الأولى: أنّه لا محيص عن الأخذ بمقتضى هذه الروايات في الجملة ، وإن كان مخالفاً للقاعدة على ما عرفت ، وذلك لاعتبار بعضها في نفسه ، وانجبار البعض الآخر بفتوى المشهور واستناد جلّ الأصحاب إليها . فقد حكي عن غاية المراد(3)والمسالك(4) والتنقيح(5) نسبة مفادها إلى الأصحاب تارة ، وإلى أكثرهم أُخرى ، بل عن الغنية الإجماع عليه(6) ، وإن كان إسناد المحقّق في الشرائع(7) ذلك إلى الرواية يشعر بتردّده فيه ، ولكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الأخذ به والفتوى على طبقه ، كما
- (1) وسائل الشيعة: 19 / 302 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 4 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 19 / 303 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 4 ح3 .
- (3) غاية المراد : 361 (مخطوط) .
- (4) مسالك الأفهام: 15 / 261 ـ 262 .
- (5) التنقيح الرائع: 4 / 447 .
- (6) غنية النزوع: 405 .
- (7) شرائع الإسلام: 4 / 1005 .