(الصفحة 109)
وبالجملة : لو كنّا نحن والآية لما كان هناك دليل على اختصاصها بغنائم دار الحرب ، كما لا يخفى على من اجتنب التعصّب .
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً مهمّاً; وهو أنّه يرى الفرق بين الزكاة والخمس من ناحية ثبوت التشكيلات لجمع الزكوات من بلاد مختلفة ووجود العاملين لأخذها وجبايتها ، ويكون في هذا المجال قضايا معروفة كقصّة مالك بن نويرة وغيرها ، وأمّا الخمس فلا يرى له لا في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا في زمن من بعده من الزعماء ـ وحتّى في زمن الخلافة الظاهرية لوصيّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين(عليه السلام) ، الذي كانت مدّة خلافته زائدة على خمس سنوات ـ عمل مثل الزكاة من الأخذ والجباية ، وإن كان قد حكي في هذا المجال في بعض صحاح أهل السنّة بعض القصص والمقالات ، لكنّها على فرض صحّتها اُمور جزئيّة غير قابلة للقياس مع مسألة الزكاة ، خصوصاً مع تعلّقها بأشخاص مخصوصين ، والخمس متعلّق بالأرباح مطلقاً .
وبالجملة : لم يوجد لهذا القسم من الخمس أثر إلى زمان الصادقين (عليهما السلام) اللذين بيّناه في ضمن روايات غير كثيرة ، فما الفرق بين الزكاة والخمس من هذه الجهة؟
وقد زعم بعض الأعلام (قدس سره) أنّه يمكن التفصّي عن الإشكال بوجهين مترتّبين :
أحدهما : ما يبتني على مسلكه من تدريجيّة الأحكام وجواز التأخير للتبليغ عن عصر التشريع بإيداع بيانه من النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى الإمام(عليه السلام) ليظهره في ظرفه المناسب له حسب المصالح الواقعيّة الباعثة على ذلك ، بل قد يظهر من بعض النصوص أنّ جملة من الأحكام لم تنشر لحدّ الآن ، وأنّها مودعة عند وليّ العصر عجّل الله تعالى فرجه(1) .
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 196 .
(الصفحة 110)
ويرد على هذا الوجه أنّ تدريجيّة الأحكام وتشريعها كذلك في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله)وإن كان ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، ضرورة عدم صدور جميع الأحكام دفعة واحدة وواحداً بعد آخر متّصلاً ، وكذا لا ينبغي الارتياب بملاحظة بعض الروايات أنّ جملة من الأحكام مودعة عند بقيّة الله عجّل الله تعالى فرجه ، إلاّ أنّ الحكم المشروع الثابت في القرآن وظهوره فيه كيف أودع بيانه من النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى الإمام(عليه السلام) ، مع أنّه لا شاهد في الآية الشريفة على تأخير إجرائه وعدم كون المقصود عدم إجرائه في مدّة من الزمن ، فأيّ فرق بين هذه الآية والآية الواردة في الحجّ ومثله؟ فهذا الوجه لا يكاد يمكن التخلّص عن الإشكال به .
ثانيهما : مع الغضّ عن ذلك المبنى إبداء الفرق بين الزكاة والخمس; لأنّ الأوّل ملك للفقراء ومثلهم ومصروف في مصالح المسلمين ، وفيه قد أمر(صلى الله عليه وآله) بالأخذ من أموالهم في قوله تعالى :
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً . . .}(1) وأمّا الخمس فهو حقّ له(صلى الله عليه وآله) ولأقربائه ، فيشبه الملك الشخصي ، ولا يناسب الأخذ فيه مثل الأخذ في باب الزكاة; لجلالة شأنه وعظمة مقامه(صلى الله عليه وآله)(2) .
ويرد على هذا الوجه أنّ مقتضاه الفرق بين الزكاة والخمس من جهة وجود التكرار فيها والعطف على الصلاة كثيراً في الكتاب العزيز ، إلاّ أنّ عدم انحصار الخمس به(صلى الله عليه وآله) لا يقتضي عدم الاعتناء بشأنه ، خصوصاً مع ملاحظة مثل قوله تعالى :
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}(3) كما لا يخفى .
والحقّ أن يقال : إنّ بُعد العهد وكثرة الفصل بين مثل هذه الأزمنة وبين زمن
- (1) سورة التوبة 9 : 103 .
- (2) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 196 .
- (3) سورة الإسراء 17 : 26 .
(الصفحة 111)
النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومثله أوجب الجهل بما في زمانه ومثله ، خصوصاً مع وجود اُمور اُخر مانعة عن ظهور الأحكام الإسلاميّة ورواجها ، مثل تغيّر مسير الخلافة وانحرافها عن موردها الأصلي ، ومثل حكومة من لا يرى البهاء إلاّ لنفس الحكومة لا لكونها طريقاً لإجراء أحكام الإسلام .
ومعاملة معاوية مع المصالحة التي عقدها مع الحسن(عليه السلام) معروفة ، وقوله لمغيرة بعد سماع معاوية الشهادة بالرسالة من المؤذِّن مشيراً إلى الرسول(صلى الله عليه وآله): «إنّ هذا الشخص جعل اسمه قريناً لاسم الله تبارك وتعالى والله دفناً دفناً»(1) وأشار بذلك إلى السعي في إمحاء الدين إلى مرحلة الفناء المحض ، وقول أبيه لجمع من أقربائه عند وصول الخلافة إلى الثالث ما يرجع إلى أنّه لا دين ولا رسالة وأمرهم بتلقّف الخلافة تلقّف الكرة(2) ، وهكذا خلفاء بني العبّاس ، وعليه فلا عجب في إخفاء أمر الخمس خصوصاً مع دلالة آية وحيدة على ذلك .
وممّا يؤكّد هذا الأمر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) مع توضّوئه كثيراً بمحضر من الناس للصلاة اليوميّة وغيرها صار وضوؤه مخفيّاً للناس إلى هذه الأزمنة أيضاً ، وقد ورد في كثير من الروايات حكاية وضوء النبيّ وبيان كيفيّته ، وحينئذ فلا مانع من خفاء حكم الخمس ، خصوصاً مع تعلّقه بالرسول وأقربائه ، وبناء الحكومات على عدم شيوع أمرهم وعدم تحقّق الاستيلاء لهم بوجه .
وممّا يؤيّد أنّ أمر الخمس كان معمولاً به في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّ أصحاب الخمس كانوا كثيرين ولم يكن لهم طريق للإشاعة نوعاً غير الخمس ، وقد ورد في
- (1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 129 ـ 130 والغدير 10 : 397 .
- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 53 ، مروج الذهب 2 : 351 .
(الصفحة 112)
الروايات المتواترة بين الفريقين أنّ الخمس جعله الله لبني هاشم عوضاً عن الزكاة وأنّ الزكاة عليهم محرّمة(1) .
وعلى فرض عدم مشروعيّة الخمس في ذلك الزمان أو القول بالاختصاص بغنائم دار الحرب يلزم عدم إدامة ما هو عوض عن الزكاة دائماً; لعدم وجود الحرب مع الكفّار إلاّ قليلاً ، فاللازم القول بثبوت المشروعيّة والجريان في جميع الفوائد والأرباح .
ثمّ إنّه يدلّ على تعلّق الحكم بهذا الأمر الخامس ـ مضافاً إلى الآية التي عرفت(2)تمامية دلالتها ـ روايات متعدّدة ربما تبلغ حدّ التواتر الإجمالي بضميمة أخبار التحليل الدالّة على المشروعية بالملازمة ، وسيأتي البحث عنها إن شاء الله تعالى كما ربما يدّعى .
منها : موثّقة سماعة قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن الخمس؟ فقال : في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير(3) .
ومنها : صحيحة عليّ بن مهزيار المذكورة في الوسائل بعنوان روايتين متعدّدتين مع أنّ الظاهر كما ذكرناه مراراً الوحدة ، فنقول : قال : كتب إليه أبو جعفر(عليه السلام) وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة ـ والظاهر أنّه كان اللاّزم الإتيان بالضمير بعنوان الجمع; لأنّ الراوي عن علي بن مهزيار هو أحمد بن محمّد وعبدالله بن محمّد جميعاً ـ قال : إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين ـ وهذا التعبير يشعر بل
- (1) الوسائل 9 : 513 ـ516 ، أبواب قسمة الخمس ب1 ح8 ـ 10 ، سنن أبي داود 3: 259 ح2985 ، كنز العمّال 4: 519 ح11533 و11534 .
- (2) في ص107 ـ 109.
- (3) الكافي 1 : 545 ح11 ، الوسائل 9 : 503 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب8 ح6 .
(الصفحة 113)
يدلّ على عدم كون الإمام(عليه السلام) بصدد بيان حكم كلّي إلهيّ سار في جميع الأنام وفي جميع الأعوام ، بل حيث إنّه كانت السنة المذكورة سنة شهادته وارتحاله(عليه السلام) ، أراد أن يطهّر مواليه فيما يرتبط بالخمس بالتخفيف عليهم والمنّة وإعمال الولاية بالتبديل كما سيأتي ـ فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كلّه خوفاً من الانتشار ، وسأفسّر لك بعضه (بقيّته خ ل) إن شاء الله ـ ولعلّه إشارة إلى الارتحال المذكور الواقع بالشهادة في أوائل سنّ الشباب قبل أن يبلغ ثلاثين سنة ـ أنّ مواليّ أسأل الله صلاحهم ، أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم ، فعلمت ذلك فأحببت أن أطهّرهم واُزكّيهم بما فعلت في عامي هذا من أمر الخمس (في عامي هذا خ ل) . قال الله تعالى :
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) .
ـ والظاهر أنّ الاستشهاد بالآية إنّما هو للاقتداء بالنبيّ الذي كان مأموراً بأخذ الزكاة ، وإلاّ فمن الواضح أنّ الآيات المزبورة مرتبطة بالزكاة دون الخمس ـ ولم اُوجب ذلك عليهم في كلّ عام ، ولا اُوجب عليهم إلاّ الزكاة التي فرضها الله عليهم ، وإنّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضّة التي قد حال عليهما الحول ، ولم اُوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دوابّ ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ، ولا ضيعة إلاّ ضيعة سأفسّر لك أمرها ـ ولعلّ المراد هو التفصيل المذكور في آخر الرواية الذي سيأتي ـ تخفيفاً منّي عن مواليّ ، ومنّاً منّي عليهم لما يغتال
- (1) سورة التوبة 9 : 103 ـ 105 .