(الصفحة 292)
مقابل الفريضة ، وقد وقع الاختلاف في مصاديقها ، فنقول: هي كما في المتن اُمور :
منها : كلّ ما لم يوجف عليها بخيل وركاب; أرضاً كانت أو غيرها ، انجلى عنها أهلها أو سلّموها للمسلمين طوعاً ، ويدلّ عليه عدّة من الأخبار :
مثل معتبرة زرارة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : ما يقول الله:
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاَْنفَالِ قُلِ الاَْنفَالُ للهِِ وَالرَّسُولِ}؟ قال: الأنفال لله وللرسول(صلى الله عليه وآله) ، وهي كلّ أرض جلى أهلها من غير أن يُحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب ، فهي نفل لله وللرسول(صلى الله عليه وآله)(1) .
وصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه سمعه يقول : إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة ، أو بطون أودية ، فهذا كلّه من الفيء والأنفال لله وللرسول ، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحبّ(2) .
وموثّقة سماعة بن مهران قال : سألته عن الأنفال؟ فقال : كلّ أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم ، قال : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(3) .
ومنها: بعض الروايات الاُخر(4) .
والظاهر تسالم الأصحاب على ذلك وإن وقع بينهم الاختلاف في الاختصاص بالأرض وعدمه ، ولكن لابدّ من التنبيه على أمر مهمّ; وهو أنّ الآيات الواردة في
- (1) التهذيب 4 : 132 ح368 ، الوسائل 9 : 526 ، أبواب الأنفال ب1 ح9 .
- (2) التهذيب 4 : 133 ح370 ، الوسائل 9 : 526 ، أبواب الأنفال ب1 ح10 .
- (3) التهذيب 4 : 133 ح373 ، الوسائل 9 : 526 ، أبواب الأنفال ب1 ح8 .
- (4) الوسائل 9 : 523 ، أبواب الأنفال ب1 ح1 و3 .
(الصفحة 293)
باب الخمس والأنفال ربما يتراءى الاختلاف بينها ، فنقول: هي أربع :
الاُولى : الآية الواردة في الخمس المتقدّمة مكرّراً التي يكون موضوعها ما غنمتم من شيء ، سواء كان المراد بالغنيمة هو مطلق الفائدة كما مرّ(1) ، أو خصوص غنائم دار الحرب كما عليه غيرنا ، والحكم فيها ثبوت الخمس للأصناف الستّة ، وقد تقدّم البحث فيها من جهات مختلفة ولا وجه للإعادة ، كما هو واضح .
الثانية : قوله تعالى في أوّل سورة الأنفال :
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاَْنفَالِ قُلِ الاَْنْفَالُ للهِِ وَالرَّسُولِ} وظاهره في نفسه أنّ موضوع الأنفال كان معلوماً عند السائلين ، والسؤال إنّما هو عن حكمها ، كما أنّ ظاهره اختصاصها بالله والرسول .
الثالثة : قوله تعالى في سورة الحشر :
{وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ}(2) ، قال في مجمع البحرين : هو من الإيجاف; وهو السير الشديد ، والمعنى: فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ، وإنّما مشيتم إليه على أرجلكم فلم تحصّلوا أموالهم بالغلبة والقتال ، ولكنّ الله سلّط رسله عليهم وخوّله أموالهم(3) .
ومثله ما قاله صاحب تفسير الميزان ، وهذه عبارته : الإفاءة الإرجاع من الفيء بمعنى الرجوع ، وضمير «منهم» لبني النضير ، والمراد من أموالهم ، وإيجاف الدابّة تسييرها بإزعاج وإسراع ، والخيل: الفرس ، والركاب: الإبل ، و«من خيل ولا ركاب» مفعول «فما أوجفتم» ومن زائدة للاستغراق . والمعنى: والذي أرجعه الله
- (1) في ص10 .
- (2) سورة الحشر 59 : 6 .
- (3) مجمع البحرين 3 : 1911 .
(الصفحة 294)
إلى رسوله من أموال بني النضير خصّه به وملكه وحده إيّاه ، فلم تسيروا عليه فرساً ولا إبلاً بالركوب حتّى يكون لكم فيه حقّ ، بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة ، ولكنّ الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير ، وقد سلّط النبيّ(صلى الله عليه وآله) على بني النضير ، فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء .
قوله تعالى :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَىوَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِوَابْنِ السَّبِيلِ}(1) إلخ ظاهره أنّه بيان لموارد مصرف الفيء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيءلفيء أهل القرى أعمّ من بني النضير وغيرهم.
وقوله :
{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي منه ما يختصّ بالله ، والمراد به صرفه وإنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول ، ومنه ما يأخذه الرسول لنفسه ، ولا يصغى إلى قول من قال : إنّ ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرّد التبرّك(2) ، انتهى موضع الحاجة .
وكلامه (قدس سره) لا يخلو عن التهافت والتناقض ، فإنّه بعدما فرض اشتراك الآيتين فيما أفاء الله على رسوله وعدم الإيجاف بخيل ولا ركاب ، فإن كان المراد اختصاص الفيء بالرسول في الآية الاُولى الواردة في بني النضير يفعل به ما يشاء كما هو ظاهر صدر العبارة ، فلا معنى; لأنّ مصرفه هي الموارد الستّة المذكورة في الآية الثانية ، واختصاص سهم الله تعالى به ينفق به في سبيل الله ، وأنّه لا يصغى إلى قول القائل بعدم وجود السهم لله ، وأنّ ذكره لأجل التبرّك والتيمّن . وإن كان المراد أنّ المصرف في كلا الفيئين هي الموارد الستّة فلا مجال لدعوى اختصاص الأوّل بالرسول ، كما ينادي به بأعلى صوته .
وبالجملة: فالظاهر أنّه لم يتمكّن من الجمع بين الآيتين . ودعوى اختصاص
- (1) سورة الحشر 59 : 7.
- (2) الميزان في تفسير القرآن 19 : 203 .
(الصفحة 295)
الاُولى ببني النضير وعموميّة الثانية لجميع القرى المشاركة لمأواهم ، كما ترى لا تلجأ إلى ركن وثيق .
وأعجب من ذلك أنّه لم يتعرّض في البحث الروائي لصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام) الآتية الواردة في تفسير الآيتين ، ومنشأ ذلك أنّ المتصدّي لتفسير القرآن لابدّ إمّا أن يكونوا أشخاصاً متعدّدة يكون كلّ شخص متخصّصاً في جهة خاصّة وعلم مخصوص من أدبيات العرب والكلام والفقه والاُصول والتاريخ والموعظة والنصيحة وما يشابهها من العلوم; لأنّ القرآن ليس مخصوصاً بعلم خاصّ ، بل كتاب اُنزل لإخراج الناس من جميع مصاديق الظلمة إلى النور ، وفي هذه الجهة قد استفاد من كلّ ما له دخل في ذلك ، وإمّا أن يكون فرداً خاصّاً جامعاً لجميع العلوم المتقدّمة ، ولذا لم يتعرّض فقهاؤنا نوعاً إلاّ لتفسير آيات الأحكام فقط; لما رأوا من افتقار التفسير الكامل إلى التخصّص في علوم شتّى حتّى الفلسفة ، ولذا كان في نظري من سالف الزمان تأسيس لجنة مذكورة لتفسير كامل للقرآن على طريقة الشيعة حتّى لا يطعن عليهم بعدم اعتنائهم كاملاً إلى الكتاب الذي هو الثقل الأكبر الباقي بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وحتّى لا يقع عليهم الطعن باشتراك الشيعة معنا في ترك العمل بحديث الثقلين ، غاية الأمر أنّنا تاركون العمل بالثقل الأصغر والشيعة تركوا العمل بالثقل الأكبر ، ويثبت لهم أنّ العامل بحديث الثقلين ليس إلاّ الشيعة وإن كان هناك بعض الاُمور مؤيّداً لهم ، مثل ما نرى من أنّ المحدّث النوري مع عظم شأنه وعلوّ مقامه قد نقل آية الحفظ في كتابه «فصل الخطاب» الموضوع لإثبات تحريف الكتاب هكذا: «إنّا أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون» .
والإنصاف أنّ مثل ذلك بل مثل أصل تأليف الكتاب المذكور قد قصم ظهر الشيعة وقد أثبتنا في كتابنا المسمّى بـ «مدخل التفسير» عدم تحريف القرآن بصورة مفصّلة بما لا مزيد عليه فراجع .
(الصفحة 296)
الرابعة : قوله تعالى متّصلاً بالآية السابقة :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ} الآية .
قال في مجمع البحرين أيضاً: أي والذي أفاءه الله وردّه من أموال اليهود ، وأصل الفيء الرجوع ، كأنّه في الأصل لهم ثمّ رجع إليهم ـ إلى أن قال :ـ ومنه قيل للظلّ الذي بعد الزوال: فيء; لرجوعه من المغرب إلى المشرق(1) .
وعن المحقّق الأردبيلي في كتاب زبدة البيان ـ الموضوع لتفسير آيات الأحكام ـ أنّ المشهور بين الفقهاء أنّ الفيء له(صلى الله عليه وآله) وبعده للقائم مقامه يفعل به ما يشاء ، كما هو ظاهر الآية الاُولى ـ أي في سورة الحشر ـ والآية الثانية تدلّ على أنّه يقسّم كالخمس ، فإمّا أن يجعل هذا غير مطلق الفيء بل فيئاً خاصّاً كان حكمه هكذا ، أو منسوخاً ، أو يكون تفضّلاً منه(صلى الله عليه وآله) ، وكلام المفسّرين أيضاً هنا لا يخلو عن شيء(2) ، انتهى .
وعن الشيخ في تفسيره الكبير المسمّى بـ «التبيان» أنّ الآيتين ناظرتان إلى مال واحد هو الفيء ، يشير الصدر إلى من بيده أمر هذا المال والذيل إلى من يستحقّ التصرّف فيه ، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يقوم مقامه يضعه في المذكورين في هذه الآية(3) .
وعن بعض الأعلام (قدس سره) في شرح العروة أنّ موضوع الآية الاُولى هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وهو راجع إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، والآية المباركة ظاهرة في
- (1) مجمع البحرين 3 : 1425 .
- (2) زبدة البيان 1 : 286 .
- (3) التبيان في تفسير القرآن 9 : 562 .