(الصفحة 324)
فائدة
في بعض الآيات التي تستفاد منها إمامة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
وقد بدا لي أن أتبرّك في الختام بذكر بعض الآيات التي يستفاد منها إمامة الأئمّة الأطهار عليهم الصلاة والسلام أجمعين من غير الافتقار إلى الاستمداد بالروايات ، ككثير من الآيات الواردة في هذا المجال ، وهو قوله تعالى في سورة البقرة :
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}(1) إلى الآيتين بعدها ، فإنّ المستفاد منها أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) حين رفعهما القواعد من الكعبة قد دعيا الله وطلبا منه اُموراً متعدّدة:
منها: قولهما :
{رَبَّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(2) فإنّ الظاهر بملاحظة وقوع هذا الدعاء من إبراهيم الذي كانت له مرتبة الرسالة والنبوّة أنّ المراد من هذا الإسلام هو أعلى مراتب التسليم في مقابل الله تبارك وتعالى ، وإلاّ لا يكاد يجتمع مع وجود النبوّة الفعلية والرسالة الثابتة حال الدعاء .
ولا مجال لدعوى كون المراد هو الإبقاء على الإسلام ، فإنّه خلاف الظاهر جدّاً وإن كان ربما يؤيّد بقولنا حكاية عن القرآن في الصلوات اليومية:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(3) ، ثمّ قالا :
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(4) ومفاده
أمران :
أحدهما: اختصاص بعض الذريّة المنسوبة إلى إبراهيم من طريق إسماعيل .
- (1) سورة البقرة 2 : 127 .
- (2) سورة البقرة 2 : 128 .
- (3) سورة الفاتحة 1 : 6 .
- (4) سورة البقرة 2 : 128 .
(الصفحة 325)
وثانيهما: أنّ المراد من وصف الإسلام هو الذي طلباه لأنفسهما لا الإسلام بالمعنى المطلق في مقابل الكفر ، ثمّ دعيا أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة(1) من غير بيان كونهم في ضلال ، كما في آية
{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(2) الواردة بالإضافة إلى جميع المؤمنين ، نظراً إلى أنّ أعراب الجاهليّة كانوا في ضلال في أبعاد شتّى ، من جهة الاعتقاد ، ومن جهة الأعمال ، ومن جهة الأخلاق .
ومن الواضح أنّ الاُمّة المسلمة مع هذه الخصوصية لا تكاد تنطبق إلاّ على أئمّتنا (عليهم السلام) ، ولا يكاد يكون المراد بالاُمّة المسلمة مطلق المسلمين بعد عدم كونهم من ذريّة إبراهيم وإسماعيل ، وعدم كون إسلامهم بالمعنى المقصود لهما كما عرفت .
أضف إلى هذه الآيات قوله تعالى في آخر سورة الحجّ :
{وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا} الخ(3). فإنّ الأمر بالجهاد حقّ المجاهدة لا يلائم عموم الناس، بخلاف الأمر بالتقوى حقّ تقاته الذي يكون المأمور به عموم الناس.
خصوصاً مع ملاحظة قوله عزّوجلّ :
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} الظاهر في اجتباء جماعة
مخصوصة ، وقد ذكر الله تعالى أنّه
{يَجْتَبِى مِن رُسُلِهِ مَن يَشَاءُ}(1) .
وأوضح منه قوله :
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، فإنّ كلمة الأب ظاهرة في الأب
- (1) اقتباس من سورة الجمعة 62 : 2 .
- (2) سورة آل عمران 3 : 164 .
- (3) سورة الحج 22 : 78 .
(الصفحة 326)
النسبي ، والاُبوّة من الجهات الاُخر كالتعليم والتزويج إنّما يكون على سبيل التسامح والعناية ، وإلاّ فالأب ظاهر في مقابل الولد النسبي .
هذا ، مضافاً إلى أنّ إبراهيم لم يسمّ جميع المسلمين بهذا العنوان في القرآن الكريم ، بل الظاهر أنّ هذه الآية إشارة إلى الآيات المتقدّمة المنطبقة على خصوص الأئمّة (عليهم السلام); لما عرفت من أنّ مرادهما من الإسلام ليس هو الإسلام العادي ، بل أعلى مراتب التسليم في جنب الله .
ويؤيّده بل يدلّ عليه دلالة واضحة أنّه تعالى قسّم الجميع في ذيل آية الحجّ إلى ثلاثة أقسام: الرسول ، والناس ، والمخاطبون بقوله :
{وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وجعل الرسول شهيداً على المخاطبين ، وجعلهم شهداء على الناس ، فهل يمكن أن يكون المراد بالمخاطبين غير الاُمّة المسلمة في الآيات السابقة؟
والذي يقتضيه الإنصاف الخالي من التعصّب أنّ دلالة مجموع الآيات في نفسها ـ من غير الاستناد إلى الروايات ، ومن غير الاتّكاء على نفس ظاهر الكتاب ـ على إمامة أئمّة الشيعة الإماميّة لا ينكرها إلاّ معاند مخالف ، وإلاّ فظهورها في ذلك ممّا لا ريب فيه ، فافهم واغتنم .
وارتكاب التأويل في بعض ما ذكر من الخصوصيّات ـ كما فعله صاحب تفسير المنار المتمايل إلى مكتب الوهابيّة وتسليم عقائد ابن تيمية صاحب كتاب منهاج
السنّة الضالّ المضلّ ـ ممّا لا يسوغ عند العقل السليم والمنطق الصحيح ، فإنّ الأصل الأوّلي في تفسير الكتاب والوصول إلى مقاصد الله تعالى هو ظاهر الكتاب مع عدم قيام دليل على خلافه ، كما في قوله تعالى :
{وَجَاءَ رَبُّكَ}(1) الظاهر في جسميّة الربّ من
- (1) سورة آل عمران 3 : 179 .
(الصفحة 327)
جهة نسبة المجيء إليه ، ومن المعلوم أنّه محال ، وفي غير مثله يكون المحور هو ظاهر الكتاب .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما اشتهر من تسمية إبراهيم(عليه السلام) اُمّة الرسول الخاتم(صلى الله عليه وآله)بأجمعهم بالاُمّة المسلمة ليس على ما ينبغي ; لعدم الشاهد عليه في الكتاب . نعم ، يبدو في النظر أنّ لازم ما ذكر اختصاص دليل نفي الحرج بهم; لأنّهم المخاطبون به .
والجواب عنه وضوح المساواة بينهم وبين غيرهم في هذه الجهة لو لم يكن الغير أولى وأرجح في هذه الجهة; لأنّ الدين المبني على السمحة السهلة لا يكاد يلائم الحرج بوجه ، كما أنّ ثبوت نظارة الرسول وشهادته عليهم لا يخدش في مقامهم ، بل يثبته ويؤيّده ، ولعلّه لأجل عدم الاختصاص استدلّ بهذه الآية في بعض الروايات كما في حديث المسح على المرارة ونحوه(2) .
وكيف كان ، فالاختصاص وعدمه أمر ، ودلالة الكتاب على إمامة الشخصيات المذكورين أمر آخر لا ارتباط بينهما كما لا يخفى ، والمقصود هو الثاني .
وقد روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن
ابن اُذينة ، عن بريد العجلي قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} قال : إيّانا عنى ونحن المجتبون ، ولم يجعل الله ـ تبارك وتعالى ـ في الدين
{مِنْ حَرَج} فالحرج أشدّ من الضيق
{مِلَّةَ
- (1) سورة الفجر 89 : 22 .
- (2) الوسائل 1 : 464 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب39 ح5 .
(الصفحة 328)
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} إيّانا عنى خاصّة ، و
{سَمَّاكُمُ(1) الْمُسْلِمينَ} الله ـ عزّوجلّ ـ سمّـانا المسلمين
{مِنْ قَبْلُ} في الكتب التي مضت ،
{وَفِى هَذَا} القرآن
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً(2) وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(3) فرسول الله(صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك وتعالى ، ونحن الشهداء على الناس ، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه ، ومن كذّب كذّبناه(4) .
وهي وإن كانت ظاهرة في أنّ التسمية باسم المسلمين كانت من الله ، لكنّه لا ينافي كون التسمية من إبراهيم كما هو ظاهر هذه الآيات على ما مرّ .
وكيف كان ، فلم تقع التسمية بهذا الإسم في القرآن الكريم إلاّ في الآيات التي ذكرناها أوّلاً ، وعرفت ظهورها فيما ذا ، فتدبّر .
- (1) في القرآن : هُو سَمّاكُم .
- (2) في القرآن : شَهيداً عَلَيكُم .
- (3) سورة الحج 22 : 77 ـ 78 .
- (4) الاُصول من الكافي 1 : 191 ، باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) شهداء الله ـ عزّوجلّ ـ على خلقه ح4 .