(الصفحة 307)
فعرض لها الموتان بعد ذلك ، ففي كونها من الأنفال ، أو باقية على ملك المسلمين كالمعمورة فعلاً تردّد وإشكال ، لا يخلو ثانيهما من رجحان1 .
1 ـ من جملة الأنفال الأرض الموات الموصوفة بما ذكر في المتن ، سواء لم يكن لها ربّ أصلاً ولم يجر عليها ملك لأحد كالمفاوز ، أو جرى ولكن قد باد بحيث لم يعرف منهم الأثر ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة; كصحيحتي محمّد بن مسلم(1)وحفص بن البختري(2) وموثّقة سماعة(3) المشتملة كلّ واحدة منها على أنّ منها ما كان من أرض خربة .
ومقتضى إطلاقها وإن كان الشمول لما إذا كان لها مالك معلوم بالفعل ، إلاّ أنّه لا محيص عن رفع اليد عن الإطلاق ; لأنّه ـ مضافاً إلى إمكان أن يقال بالانصراف عمّا إذا كان لها مالك شخصاً أو نوعاً ـ على تقدير تسليم دعوى عدم الانصراف لابدّ من تقييده بما إذا انجلى أهلها وأعرضوا عنها; لدلالة موثّقة إسحاق بن عمّار على ذلك ، قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الأنفال؟ فقال : هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها(4) ; لدلالتها على أنّ مجرّد الخراب لا يوجب الخروج عن ملك المالك; لأنّ القضيّة الوصفيّة في مقام التحديد ولها مفهوم كما مرّ ، ولذا ألحق مثل هذه الأراضي بالأنفال كبابل والكوفة ونحوهما ، فهي من الأنفال بأرضها وآثارها كالأحجار ونحوها .
ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّ الأرض الموات الكذائية لو كانت من الأراضي المفتوحة
- (1) تقدّمت في ص292.
- (2) تقدّمت في ص300 .
- (3) تقدّمت في ص292 .
- (4) تفسير القمّي 1 : 254 ، الوسائل 9 : 531 ، أبواب الأنفال ب1 ح20 .
(الصفحة 308)
عنوة التي كانت ملكاً للمسلمين ، هل كانت ملحقة بما إذا كانت ملكاً للشخص ، أو للعموم كعنوان الفقراء الموقوف عليهم ، أو ملحقة بما يجري عليه حكم الأنفال؟
قد قوّى في المتن الثاني ، كما حكي استظهاره عن المحقّق(1) وصاحب الجواهر (قدس سرهما)(2) ، ولكن ربما استشكل عليهما بأنّه لا يبعد خروجها عن ملك المسلمين بالخراب ، فيعتبر في ملكيّتهم إيّاها كونها عامرة حدوثاً وبقاءً; لأنّه ليس هنا إطلاق يقتضي كونها ملكاً للمسلمين حتّى بعد الخراب ، فلا يبقى إلاّ استصحاب عدم الخروج بالخراب عن ملكهم ، ولكنّه لا يقاوم العموم في بعض الروايات المتقدّمة(3) .
إلاّ أن يقال : إنّ المقام نظير ما إذا زال التغيّر بنفسه عن الماء الذي تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة وصار محكوماً بالنجاسة لأجل ذلك ، فإنّه بعد زوال التغيّر من قبل نفسه وإن كان لا يصدق عليه فعلاً الماء المتغيّر; لأنّ المفروض زوال تغيّره ، إلاّ أنّ ذلك يمنع عن التمسّك بالدليل ، ولا يمنع عن جريان استصحاب النجاسة التي كان معروضها الماء; لأنّه بعد انطباق الدليل على الخارج وصيرورة الماء متنجّساً نشكّ في زوالها بعد زوال التغيّر كذلك; للشكّ في أنّ حيثيّة التغيّر تعليليّة أو تقييديّة .
ومقتضى الاستصحاب الجاري في الماء بقاء النجاسة ، وقد قدّمنا التحقيق في هذا المجال في كتاب الطهارة(4) فراجع .
- (1) شرائع الإسلام 1 : 183 .
- (2) جواهر الكلام 16 : 117 ـ 118 .
- (3) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 358 ـ 359 .
- (4) تفصيل الشريعة (كتاب الطهارة ، أحكام المياه): 132 ـ 134 .
(الصفحة 309)
وفي المتن ذكر في الذيل قوله : «نعم ، ما علم أنّها كانت . . .» .
ويرد عليه: أنّه يشترط في اتّصاف الأرض بكونها مفتوحة عنوةً إحراز كونها عامرة حال الفتح ، إلاّ أن يريد الإشكال في اعتبار ذلك بقاءً كالاعتبار حدوثاً ، بل ظاهر العبارة إمكان كون الأراضي المفتوحة عنوةً التي هي ملك للمسلمين غير معمورة حال الفتح ; لأنّ الفرض الذي استدركه عين ما هو محلّ البحث في المقام الذي قد قوّى فيه كونه من الأنفال ، مع أنّ الظاهر أنّ اعتباره حدوثاً لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في الاعتبار بقاءً ; لأنّه ليس بحسب الواقع إلاّ فروض ثلاثة :
الاُولى : العامرة حال الفتح حدوثاً وبقاءً ، ولا شبهة في عدم ارتباطها بالمقام .
الثانية : عكس ذلك ، ولا شبهة أيضاً في عدم ارتباطها بالمقام; لعدم كونها عامرة حال الفتح .
الثالثة : ما إذا كانت عامرة حال الفتح ثمّ صارت خربة وعرض لها الموتان ، وعليه فيسئل عن أنّ هذه الصورة داخلة فيما قبل «نعم» أو فيما بعده ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراده ما إذا كان بعض من الأراضي المفتوحة عنوةً مواتاً ، فحينئذ إذا كان مواتاً من الأصل يكون داخلاً في الأنفال ، وإذا كانت عامرة ثمّ عرض لها الموتان يجري الاستصحاب المذكور ، فتدبّر .
وعليه: فالأرجح في النظر جريان استصحاب كونها مفتوحة عنوة وعدم كونها من الأنفال; لجريانه في الشبهات الحكمية أيضاً ، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة; لوجوبها في زمن الحضور قطعاً لو لم يكن هناك أمارة على الوجوب أو عدمه ، بل لا مجال لاحتمال اعتبار كونها عامرة حدوثاً وبقاءً ; لأنّ المراد بالبقاء ليس هو البقاء إلى أمد مخصوص ، بل البقاء للتالي ، وإحراز ذلك مشكل لو لم يكن ممتنعاً عادةً .
(الصفحة 310)
وعليه: فالمعتبر هو اعتبار كونها عامرة حال الفتح فقط ، فلا مجال إلاّ لجريان استصحاب كونها باقية على ملك المسلمين ، كما قد رجّحه في المتن .
ثمّ إنّ بعض الأعلام (قدس سره) بعد المناقشة في ثبوت الإطلاق في أدلّة كون الأراضي المفتوحة عنوةً ملكاً للمسلمين حتّى بعد الخراب ، والمناقشة في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية قال ما ملخّصه : إنّه على تقدير تسليم الإطلاق في تلك الأدلّة فغايته المعارضة مع عموم ما دلّ على أنّ كلّ أرض خربة للإمام ، على ما نطقت به صحيحة ابن البختري المتقدّمة(1) بالعموم من وجه ، ولا شكّ أنّ العموم اللفظي مقدّم على الإطلاق .
قال : ويترتّب على هذا البحث أثر مهمّ جداً ، فإنّ تلك الخربة لو كانت من الأنفال فبما أنّهم (عليهم السلام) حلّلوها وملّكوها لكلّ من أحياها بمقتضى قوله(عليه السلام) : «من أحياأرضاً مواتاً فهي له»(2) فلو أحيا تلك الخربة أحد كانت ملكاًشخصيّاً له بمقتضى الإذن العامّ الصادر منهم لعامّة الأنام ، وأمّا لو لم تكن من الأنفال فهي باقية على ما كانت عليه من ملكيّتها لعامّة المسلمين ولا تكون بالإحياء ملكاً شخصياً لأحد .
وعليه: فلو فرضنا أنّ الأرض المعيّنة كانت من الخراجيّة وهي تحت يد شخص يدّعي الملكية ، واحتملنا أنّها خربت وعمّرها هو أو من انتقلت عنه إليه ولو في الأزمنة السالفة ، فإنّه على المختار يحكم بأنّها له بمقتضى قاعدة اليد باحتمال مالكيّته واقعاً بإحيائه الأرض بعد خرابها وصيرورتها من الأنفال التي تملّك بالإحياء .
وملخّص الكلام أنّ عموم قوله(عليه السلام) في موثّق إسحاق بن عمّار : «وكلّ أرض
- (1) في ص300 .
- (2) وسائل الشيعة 25: 412 ، كتاب إحياء الموات ب1 ح5 .
(الصفحة 311)
لا ربّ لها» أو «ما كان من الأرض الخربة» غير قاصر الشمول للمقام ، فإنّ الربّ بمعنى المالك والمتصدّي لعمارة الأرض المعبّر عنه عرفاً بصاحب الأرض ، وهو صادق على الأرض الخربة وإن كانت خراجيّة ، فهي فعلاً ملك للإمام وإن كانت سابقاً ملكاً للمسلمين .
ثمّ قال: وهذا القول هو الأصحّ وإن كان على خلاف المشهور بين المتأخّرين كصاحب الجواهر(1) وغيره(2) ، حيث ذكروا أنّ هذه الأراضي حكمها حكم ما كان له مالك معيّن ، فكما لا تخرج عن ملكه بالخراب كذلك المفتوحة عنوةً ، إلاّ في قسم خاصّ لم نتكلّم فيه; وهي الملكية التي منشؤها الإحياء ، فإنّ فيها كلاماً طويلاً عريضاً من حيث رجوعها بعد الخراب إلى الإمام(عليه السلام) وعدمه ، مذكور في كتاب إحياء الموات وخارج عن محلّ كلامنا ، انتهى(3) .
ويرد عليه بأنّ مثل قوله(عليه السلام) : «وكلّ أرض خربة» كما أنّه منصرف عمّا إذا كان للأرض مالك شخصي أو عمومي ، كالموقوف عليهم مثل الفقراء والعلماء ونحوهما ، كذلك منصرف عن الأراضي الخراجيّة التي هي ملك للمسلمين; لأنّ الظاهر أنّ مورد العموم هي الأرض التي لا يكون لها مالك أصلاً .
وبعبارة اُخرى هو في مقام بيان أنّ الإحياء سبب مملّك تحريضاً للمسلمين وترغيباً لهم على إحياء الأراضي غير العامرة ، وعليه فيختصّ مورده بالمباحات ، وإلاّ فلو كان شاملاً للأراضي الخراجية لكان اللازم الالتزام بملكيّة أوّل من أحدث فيها الزراعة ونحوها ، ولم يحلّ الخراج في الزمن الثاني وما بعده ، وكذا قوله(عليه السلام) :
- (1) جواهر الكلام 16 : 118 .
- (2) كالمحقّق الهمداني في مصباح الفقيه 14 : 242 .
- (3) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 359 ـ 360 .