(الصفحة 299)
عليهم بغير الحرب وحدوث ميدان القتال ، مع أنّ «القرية» في الكتاب لا تكون في مقابل البلد ، كقوله :
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا}(1) وقد اشتهر التعبير عن مكّة المكرّمة باُمّ القرى .
ثمّ إنّ التعبير بقوله(عليه السلام): «فهذا بمنزلة المغنم» ربما يشعر باختصاص الغنيمة في آية الخمس بغنائم دار الحرب ، ضرورة أنّه لو كان المراد بالغنيمة مطلق الفائدة والاستفادة لا يكون فرق بين الموردين أصلاً ، كما لا يخفى . وهذا الأمر أيضاً من جملة الاُمور المضعفة للرّواية .
ويرد على ما أفاده من اقتضاء قرينة المقابلة ذلك: أنّ الاعتماد على هذه القرينة إنّما هو بالإضافة إلى القيد الذي له كمال الدخالة في الحكم المذكور في الجملة المقابلة غير تام ، خصوصاً مع عدم الظهور العرفي في ذلك ، حتّى ذكر جماعة من المفسّرين ممّن مضى أنّ مورد الآية الثانية هو مورد الآية الاُولى(2) كما مرّ .
والالتزام بكون الآية الثانية منسوخة كما ترى ، كما أنّ الالتزام بثبوت شيء ثالث وفيء خاصّ كذلك ، والظاهر أنّه لا محيص عن الجمع بمثل ما أفاده وإن كان بعيداً في نفسه كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .
ثمّ إنّه بعد ذلك يقع الكلام في اختصاص هذا النوع من الأنفال بالأراضي كما عن المشهور(3) ، أو يعمّ غيرها كالفرش والأواني ونحوهما كما هو صريح المتن ، وقد استدلّ على التعميم ببعض الروايات ، مثل:
- (1) سورة يوسف 12 : 82 .
- (2) الكشاف 4 : 502 ، الصافي في تفسير القرآن 2 : 682 ، كنز العرفان : 377 .
- (3) النهاية : 199 ، السرائر 1 : 497 ، شرائع الإسلام 1 : 183 ، تذكرة الفقهاء 5 : 439 .
(الصفحة 300)
إطلاق صحيحة حفص بن البختري ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء(1) .
وعموم صحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : السريّة يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال : إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة(2) أخماس ، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ(3) . فإنّ مقتضى عموم الموصول الشمول لغير الأرض ، خصوصاً مع أنّ الخمس لا يختصّ بها ، وقد وقع مقابلاً للأنفال في الرواية الثانية ، فدلالتها على العموم بالدلالة اللفظية ، كما أنّ دلالة الاُولى بالإطلاق كما لا يخفى .
ولكن ربما يقال بأنّ في مقابل العموم الشامل للإطلاق الروايات المتقدّمة في صدر بحث الأنفال الظاهرة في الاختصاص بالأرض; لورودها في مقام التحديد والبيان ، وظاهرها أنّ للأرض خصوصيّة في هذه الجهة ، والمفهوم وإن لم نقل بثبوته حتّى بالإضافة إلى مفهوم الشرط الذي هو في رأس المفاهيم كما قرّر في محلّه من علم الاُصول ، إلاّ أنّه في غير ما ورد من القضايا المفهومية في مقام التحديد والتفسير كالأخبار الواردة في تحديد الكرّ(4) ، وفيه تقتضي القضيّة الدلالة على
- (1) الكافي 1 : 539 ح3 ، الوسائل 9 : 523 ، أبواب الأنفال ب1 ح1 .
- (2) كذا في المصدر ، ولكن في الوسائل: ثلاثة .
- (3) الكافي 5 : 43 باب قسمة الغنيمة ح1 ، الوسائل 9 : 524 ، أبواب الأنفال ب1 ح3 .
- (4) وسائل الشيعة 1: 164 ـ 167 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ب10 و11 .
(الصفحة 301)
المفهوم بالطبيعة ، فاللازم تقييد الإطلاقات وتخصيص العمومات بمثل هذه الروايات والحكم بالاختصاص بالأرض ، كما عليه المشهور .
وأجاب عن هذا الإشكال بعض الأعلام (قدس سره) بما ملخّصه: أنّه لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور .
أمّا أوّلاً: فلأنّ تلك الروايات لا تكون في مقام بيان الأنفال بتمام أقسامها ، كيف؟ وهي غير منحصرة في الأراضي بالضرورة ، فإنّ منها قطائع الملوك وميراث من لا وارث له ونحوهما ، ولم يتعرّض فيها إليها ، فيعلم أنّها بصدد بيان مصداق الأنفال في الجملة لا تحديد مفهومه ليدلّ على الانحصار بطبع الحال .
وأمّا ثانياً: فلأنّ الظهور المزبور وإن كان قابلاً لأن يقيّد به الإطلاق في صحيحة حفص ، إلاّ أنّه غير قابل لأن يخصّص به العموم في صحيحة معاوية بن وهب; لأنّ دلالته بالعموم اللفظي وهو أقوى من الظهور المستند إلى المفهوم; لأنّه كالصريح في عدم الفرق بين الأرض وغيرها ، على أنّ في صدر هذه الرواية دلالة على الشمول لغير الأراضي ، وهو قوله(عليه السلام): «فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟» فإنّ هذا التعبير ظاهر في المنقول ، وعليه فلا مناص من الأخذ بعموم هذه الصحيحة ورفع اليد عن ظهور تلك الروايات في الحصر بصراحة هذه المستندة إلى الدلالة الوضعية(1) .
قلت : ويمكن الإيراد على الجوابين :
أمّا الإيراد على الجواب الأوّل: فلأنّ خلوّ تلك الروايات عن بيان بعض أقسام الأنفال لا دلالة فيه على عدم كونها في مقام البيان والتحديد ، كالأخبار الواردة في الكرّ ، فإنّ ما دلّ منها على التحديد بالوزن لا ينافي ما دلّ على التحديد بالمساحة ،
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 355 ـ 356 .
(الصفحة 302)
وقد وقع البحث في ذلك المقام في الجمع بين التحديدين ، مع أنّه بحسب بادئ النظر غير قابل للجمع ، وليس التصدّي للجمع لأجل عدم العلم بما صدر من التحديدين أوّلاً ، فإنّه لا فرق في ذلك بين صورة العلم وعدمه كما لا يخفى .
وقد مرّ أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) مع عظمة شأنه وعلوّ مقامه قد تصدّى للجمع بين التحديدين بما لا يساعده عقائد الشيعة ، فراجع كتاب المياه(1) .
وعليه فلا مجال لرفع اليد عن ظهورها في الأرض .
وأمّا الإيراد على الجواب الثاني: فلأنّ دلالة لفظ العموم على الاستيعاب بالدلالة اللفظية الوضعيّة لا تمنع عن الافتقار إلى الإطلاق في مدخوله; لأنّ دلالة لفظ «كلّ عالم» مثلاً على جميع أفراد هذه الطبيعة إنّما هو على فرض كون المدخول للفظة «كلّ» هي الطبيعة ، وإلاّ فلو فرض كون المدخول هو العالم العادل فلفظ العموم لا يدلّ على استيعاب أفراد مطلق طبيعة العالم ولو لم يكن عادلاً .
وحينئذ نقول : إنّ المفهوم على تقدير القول بثبوته إنّما يتصرّف في تقييد ذلك الإطلاق لا في أفراد المدخول ، فقوله : «إن جاءك زيد العالم فأكرمه» يدلّ بالمفهوم على تقديره على عدم وجوب إكرام زيد في صورة عدم المجيء ، وهو يوجب التصرّف في إطلاق «أكرم كلّ عالم» الشامل للجائي وغيره ، لا في العموم الثابت بالدلالة اللفظية التابع للمدخول سعةً وضيقاً ، نظير قوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» عقيب قوله : «أكرم كلّ عالم» فإنّه لابدّ من الالتزام بالتخصيص لإخراج الفرد من العموم الثابت بالدلالة الوضعية ، ولا مجال فيه للتقييد بوجه كما لا يخفى .
ففرق بين قوله: «إن جاءك زيد يجب إكرامه» على فرض ثبوت المفهوم ، وهو
- (1) جواهر الكلام 1 : 181 .
(الصفحة 303)
«إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه» ، وبين قوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» فإنّه لا مجال فيه لغير التقييد ، والمقام من هذا القبيل .
فلا فرق أن يكون الظهور الناشئ عن الكون في مقام التحديد الموجب لثبوت المفهوم كما هو مبنى الجواب الثاني بين أن يكون في مقابل صحيحة حفص أو صحيحة معاوية ، فتدبّر .
اللّهم إلاّ أن يقال بعدم الافتقار إلى إثبات الإطلاق في المدخول من طريق مقدّمات الحكمة ، والتحقيق في محلّه من بحث العامّ والخاصّ من الاُصول .
بقي الكلام في هذا البحث في أنّ المراد بالأراضي هنا هل هو مطلق الأراضي التي استولى عليها المسلمون من دون خيل ولا ركاب ، سواء كان من الموات أو المحياة أم لا؟ ظاهر إطلاق الكلمات الأوّل ، مضافاً إلى أنّه لو كانت مختصّة بالموات لم يكن وجه للتقييد بعدم القتال والحرب; لأنّ الأراضي الميتة التي يستولي عليها المسلمون تعدّ من الأنفال ولو كان مع القتال والمحاربة ; لأنّ الشرط في الأراضي المفتوحة عنوةً أو الخراجية التي هي عبارة اُخرى عنها التي هي ملك للمسلمين جميعاً أن تكون عامرة حال الفتح والغلبة ، وإلاّ فلا تكون كذلك ، بل هي معدودة من الأنفال .
وقد ذكرنا في أوائل كتاب الخمس وجود الاختلاف بينهم في الأراضي المفتوحة عنوة من جهة شمول آية الخمس لها وعدمه ، واستظهرنا هناك(1) عدم الشمول وإن اشتهر بين الشيخ(2) وجماعة(3) .
- (1) في ص19 .
- (2) النهاية : 198 ، المبسوط 2 : 28 .
- (3) شرائع الإسلام 1 : 179 ، تذكرة الفقهاء 5 : 409 ، إرشاد الأذهان 1 : 292 .