(الصفحة 111)
النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومثله أوجب الجهل بما في زمانه ومثله ، خصوصاً مع وجود اُمور اُخر مانعة عن ظهور الأحكام الإسلاميّة ورواجها ، مثل تغيّر مسير الخلافة وانحرافها عن موردها الأصلي ، ومثل حكومة من لا يرى البهاء إلاّ لنفس الحكومة لا لكونها طريقاً لإجراء أحكام الإسلام .
ومعاملة معاوية مع المصالحة التي عقدها مع الحسن(عليه السلام) معروفة ، وقوله لمغيرة بعد سماع معاوية الشهادة بالرسالة من المؤذِّن مشيراً إلى الرسول(صلى الله عليه وآله): «إنّ هذا الشخص جعل اسمه قريناً لاسم الله تبارك وتعالى والله دفناً دفناً»(1) وأشار بذلك إلى السعي في إمحاء الدين إلى مرحلة الفناء المحض ، وقول أبيه لجمع من أقربائه عند وصول الخلافة إلى الثالث ما يرجع إلى أنّه لا دين ولا رسالة وأمرهم بتلقّف الخلافة تلقّف الكرة(2) ، وهكذا خلفاء بني العبّاس ، وعليه فلا عجب في إخفاء أمر الخمس خصوصاً مع دلالة آية وحيدة على ذلك .
وممّا يؤكّد هذا الأمر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) مع توضّوئه كثيراً بمحضر من الناس للصلاة اليوميّة وغيرها صار وضوؤه مخفيّاً للناس إلى هذه الأزمنة أيضاً ، وقد ورد في كثير من الروايات حكاية وضوء النبيّ وبيان كيفيّته ، وحينئذ فلا مانع من خفاء حكم الخمس ، خصوصاً مع تعلّقه بالرسول وأقربائه ، وبناء الحكومات على عدم شيوع أمرهم وعدم تحقّق الاستيلاء لهم بوجه .
وممّا يؤيّد أنّ أمر الخمس كان معمولاً به في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّ أصحاب الخمس كانوا كثيرين ولم يكن لهم طريق للإشاعة نوعاً غير الخمس ، وقد ورد في
- (1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 129 ـ 130 والغدير 10 : 397 .
- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 53 ، مروج الذهب 2 : 351 .
(الصفحة 112)
الروايات المتواترة بين الفريقين أنّ الخمس جعله الله لبني هاشم عوضاً عن الزكاة وأنّ الزكاة عليهم محرّمة(1) .
وعلى فرض عدم مشروعيّة الخمس في ذلك الزمان أو القول بالاختصاص بغنائم دار الحرب يلزم عدم إدامة ما هو عوض عن الزكاة دائماً; لعدم وجود الحرب مع الكفّار إلاّ قليلاً ، فاللازم القول بثبوت المشروعيّة والجريان في جميع الفوائد والأرباح .
ثمّ إنّه يدلّ على تعلّق الحكم بهذا الأمر الخامس ـ مضافاً إلى الآية التي عرفت(2)تمامية دلالتها ـ روايات متعدّدة ربما تبلغ حدّ التواتر الإجمالي بضميمة أخبار التحليل الدالّة على المشروعية بالملازمة ، وسيأتي البحث عنها إن شاء الله تعالى كما ربما يدّعى .
منها : موثّقة سماعة قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن الخمس؟ فقال : في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير(3) .
ومنها : صحيحة عليّ بن مهزيار المذكورة في الوسائل بعنوان روايتين متعدّدتين مع أنّ الظاهر كما ذكرناه مراراً الوحدة ، فنقول : قال : كتب إليه أبو جعفر(عليه السلام) وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة ـ والظاهر أنّه كان اللاّزم الإتيان بالضمير بعنوان الجمع; لأنّ الراوي عن علي بن مهزيار هو أحمد بن محمّد وعبدالله بن محمّد جميعاً ـ قال : إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين ـ وهذا التعبير يشعر بل
- (1) الوسائل 9 : 513 ـ516 ، أبواب قسمة الخمس ب1 ح8 ـ 10 ، سنن أبي داود 3: 259 ح2985 ، كنز العمّال 4: 519 ح11533 و11534 .
- (2) في ص107 ـ 109.
- (3) الكافي 1 : 545 ح11 ، الوسائل 9 : 503 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب8 ح6 .
(الصفحة 113)
يدلّ على عدم كون الإمام(عليه السلام) بصدد بيان حكم كلّي إلهيّ سار في جميع الأنام وفي جميع الأعوام ، بل حيث إنّه كانت السنة المذكورة سنة شهادته وارتحاله(عليه السلام) ، أراد أن يطهّر مواليه فيما يرتبط بالخمس بالتخفيف عليهم والمنّة وإعمال الولاية بالتبديل كما سيأتي ـ فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كلّه خوفاً من الانتشار ، وسأفسّر لك بعضه (بقيّته خ ل) إن شاء الله ـ ولعلّه إشارة إلى الارتحال المذكور الواقع بالشهادة في أوائل سنّ الشباب قبل أن يبلغ ثلاثين سنة ـ أنّ مواليّ أسأل الله صلاحهم ، أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم ، فعلمت ذلك فأحببت أن أطهّرهم واُزكّيهم بما فعلت في عامي هذا من أمر الخمس (في عامي هذا خ ل) . قال الله تعالى :
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) .
ـ والظاهر أنّ الاستشهاد بالآية إنّما هو للاقتداء بالنبيّ الذي كان مأموراً بأخذ الزكاة ، وإلاّ فمن الواضح أنّ الآيات المزبورة مرتبطة بالزكاة دون الخمس ـ ولم اُوجب ذلك عليهم في كلّ عام ، ولا اُوجب عليهم إلاّ الزكاة التي فرضها الله عليهم ، وإنّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضّة التي قد حال عليهما الحول ، ولم اُوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دوابّ ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ، ولا ضيعة إلاّ ضيعة سأفسّر لك أمرها ـ ولعلّ المراد هو التفصيل المذكور في آخر الرواية الذي سيأتي ـ تخفيفاً منّي عن مواليّ ، ومنّاً منّي عليهم لما يغتال
- (1) سورة التوبة 9 : 103 ـ 105 .
(الصفحة 114)
السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم ، فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام ، قال الله تعالى :
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْء فَأَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ}(1) والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها ، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن ، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله ومثل مال يؤخذ(2) لا يعرف له صاحب وما صار إلى مواليّ من أموال الخرمية الفسقة ـ هم القائلون بالتناسخ والإباحة كما في المحكي عن هامش المخطوط ـ فقد علمت أنّ أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليّ ، فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصله إلى وكيلي ، ومن كان نائياً بعيد الشقّة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين ، فإنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عمله ، فأمّا الذي أوجب من الضياع والغلاّت في كلّ عام فهو نصف السدس ممّن كانت ضيعته تقوم بمؤونته ، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمؤونته فليس عليه نصف سدس ولا غير ذلك(3) .
وصاحب المدارك(4) مع اعترافه بصحّة الرواية بالصحّة المعتبرة عنده زعم أنّ في الرواية إشكالات موجبة لطرحها وعدم الأخذ بها ، وعمدتها ترجع إلى :
- (1) سورة الأنفال 8 : 41 .
- (2) والظاهر أنّه يؤخذ ، لا «يوجد» كما في مصباح الفقيه 14: 100 ، المؤلّف دام ظلّه .
- (3) التهذيب 4 : 141 ح398 ، الاستبصار 2 : 60 ح198 ، الوسائل 9 : 501 أبواب ما يجب فيه الخمس ب8 ح5 .
- (4) مدارك الأحكام 5 : 383 .
(الصفحة 115)
1 ـ إيجاب الخمس في الذهب والفضّة ، مع أنّه لا يجب فيهما إلاّ الزكاة بالإجماع .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الزكاة لا تجب في مطلق الذهب والفضّة ، بل في خصوص الدينار والدرهم ـ ما أورد عليه بعض الأعلام (قدس سره).
أوّلاً: أنّه لو اُريد من الذهب والفضّة ما كان بنفسه مورداً للخمس كما لو وقع ربحاً في تجارة فالأمر ظاهر ، إذ عليه يكون هذا استثناءً عمّا ذكره(عليه السلام) من السقوط في مطلق الأرباح فأسقط(عليه السلام)الخمس عن كلّ ربح ما عداهما ، فيجب بعد حلول الحول لا بعنوانهما الأوّلي ، بل بما أنّهما ربح في تجارة .
وثانياً : أنّه لو اُريد إيجاب الخمس بعنوانهما الذاتي ولو لم يتعلّق بهما خمس ، كما لو كان إرثاً وحال عليه الحول فلا ضير فيه أيضاً; لأنّه(عليه السلام) لم يكن بصدد بيان الحكم الشرعي مطلقاً ، بل أوجب عليهم الخمس في خصوص سنته هذه فقط بمقتضى الولاية الكلّية الثابتة له(عليه السلام) ، فله إسقاط الخمس عن التجارة وإثباته في الذهب والفضّة ولو موقّتاً لمصلحة يراها(1) .
2 ـ قوله(عليه السلام) : «والغنائم والفوائد يرحمك الله» إلى آخره ، حيث حكي عن المدارك إندراج الجائزة الخطيرة والميراث ممّن لايحتسب ، والمال الذي لا يُعرف صاحبه ، وما يحلّ تناوله من مال العدوّ في اسم الغنائم ، فيكون مصرف الخمس فيها مصرف خمس الغنائم .
واُجيب عنه بأنّ فيه ما لا يخفى ، ضرورة أنّ الجائزة من أظهر أنواع الفائدة ولو فرض عدم شمول لفظ الغنيمة لها ، وكذا ما بعده من الموارد من الميراث ممّن لا يحتسب ، والمال المأخوذ من عدوّ يصطلم ، فإنّ كون ذلك كلّه فائدة أمر
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 202 ـ 203 .