(الصفحة 294)
إلى رسوله من أموال بني النضير خصّه به وملكه وحده إيّاه ، فلم تسيروا عليه فرساً ولا إبلاً بالركوب حتّى يكون لكم فيه حقّ ، بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة ، ولكنّ الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير ، وقد سلّط النبيّ(صلى الله عليه وآله) على بني النضير ، فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء .
قوله تعالى :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَىوَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِوَابْنِ السَّبِيلِ}(1) إلخ ظاهره أنّه بيان لموارد مصرف الفيء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيءلفيء أهل القرى أعمّ من بني النضير وغيرهم.
وقوله :
{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي منه ما يختصّ بالله ، والمراد به صرفه وإنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول ، ومنه ما يأخذه الرسول لنفسه ، ولا يصغى إلى قول من قال : إنّ ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرّد التبرّك(2) ، انتهى موضع الحاجة .
وكلامه (قدس سره) لا يخلو عن التهافت والتناقض ، فإنّه بعدما فرض اشتراك الآيتين فيما أفاء الله على رسوله وعدم الإيجاف بخيل ولا ركاب ، فإن كان المراد اختصاص الفيء بالرسول في الآية الاُولى الواردة في بني النضير يفعل به ما يشاء كما هو ظاهر صدر العبارة ، فلا معنى; لأنّ مصرفه هي الموارد الستّة المذكورة في الآية الثانية ، واختصاص سهم الله تعالى به ينفق به في سبيل الله ، وأنّه لا يصغى إلى قول القائل بعدم وجود السهم لله ، وأنّ ذكره لأجل التبرّك والتيمّن . وإن كان المراد أنّ المصرف في كلا الفيئين هي الموارد الستّة فلا مجال لدعوى اختصاص الأوّل بالرسول ، كما ينادي به بأعلى صوته .
وبالجملة: فالظاهر أنّه لم يتمكّن من الجمع بين الآيتين . ودعوى اختصاص
- (1) سورة الحشر 59 : 7.
- (2) الميزان في تفسير القرآن 19 : 203 .
(الصفحة 295)
الاُولى ببني النضير وعموميّة الثانية لجميع القرى المشاركة لمأواهم ، كما ترى لا تلجأ إلى ركن وثيق .
وأعجب من ذلك أنّه لم يتعرّض في البحث الروائي لصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام) الآتية الواردة في تفسير الآيتين ، ومنشأ ذلك أنّ المتصدّي لتفسير القرآن لابدّ إمّا أن يكونوا أشخاصاً متعدّدة يكون كلّ شخص متخصّصاً في جهة خاصّة وعلم مخصوص من أدبيات العرب والكلام والفقه والاُصول والتاريخ والموعظة والنصيحة وما يشابهها من العلوم; لأنّ القرآن ليس مخصوصاً بعلم خاصّ ، بل كتاب اُنزل لإخراج الناس من جميع مصاديق الظلمة إلى النور ، وفي هذه الجهة قد استفاد من كلّ ما له دخل في ذلك ، وإمّا أن يكون فرداً خاصّاً جامعاً لجميع العلوم المتقدّمة ، ولذا لم يتعرّض فقهاؤنا نوعاً إلاّ لتفسير آيات الأحكام فقط; لما رأوا من افتقار التفسير الكامل إلى التخصّص في علوم شتّى حتّى الفلسفة ، ولذا كان في نظري من سالف الزمان تأسيس لجنة مذكورة لتفسير كامل للقرآن على طريقة الشيعة حتّى لا يطعن عليهم بعدم اعتنائهم كاملاً إلى الكتاب الذي هو الثقل الأكبر الباقي بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وحتّى لا يقع عليهم الطعن باشتراك الشيعة معنا في ترك العمل بحديث الثقلين ، غاية الأمر أنّنا تاركون العمل بالثقل الأصغر والشيعة تركوا العمل بالثقل الأكبر ، ويثبت لهم أنّ العامل بحديث الثقلين ليس إلاّ الشيعة وإن كان هناك بعض الاُمور مؤيّداً لهم ، مثل ما نرى من أنّ المحدّث النوري مع عظم شأنه وعلوّ مقامه قد نقل آية الحفظ في كتابه «فصل الخطاب» الموضوع لإثبات تحريف الكتاب هكذا: «إنّا أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون» .
والإنصاف أنّ مثل ذلك بل مثل أصل تأليف الكتاب المذكور قد قصم ظهر الشيعة وقد أثبتنا في كتابنا المسمّى بـ «مدخل التفسير» عدم تحريف القرآن بصورة مفصّلة بما لا مزيد عليه فراجع .
(الصفحة 296)
الرابعة : قوله تعالى متّصلاً بالآية السابقة :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ} الآية .
قال في مجمع البحرين أيضاً: أي والذي أفاءه الله وردّه من أموال اليهود ، وأصل الفيء الرجوع ، كأنّه في الأصل لهم ثمّ رجع إليهم ـ إلى أن قال :ـ ومنه قيل للظلّ الذي بعد الزوال: فيء; لرجوعه من المغرب إلى المشرق(1) .
وعن المحقّق الأردبيلي في كتاب زبدة البيان ـ الموضوع لتفسير آيات الأحكام ـ أنّ المشهور بين الفقهاء أنّ الفيء له(صلى الله عليه وآله) وبعده للقائم مقامه يفعل به ما يشاء ، كما هو ظاهر الآية الاُولى ـ أي في سورة الحشر ـ والآية الثانية تدلّ على أنّه يقسّم كالخمس ، فإمّا أن يجعل هذا غير مطلق الفيء بل فيئاً خاصّاً كان حكمه هكذا ، أو منسوخاً ، أو يكون تفضّلاً منه(صلى الله عليه وآله) ، وكلام المفسّرين أيضاً هنا لا يخلو عن شيء(2) ، انتهى .
وعن الشيخ في تفسيره الكبير المسمّى بـ «التبيان» أنّ الآيتين ناظرتان إلى مال واحد هو الفيء ، يشير الصدر إلى من بيده أمر هذا المال والذيل إلى من يستحقّ التصرّف فيه ، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يقوم مقامه يضعه في المذكورين في هذه الآية(3) .
وعن بعض الأعلام (قدس سره) في شرح العروة أنّ موضوع الآية الاُولى هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وهو راجع إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، والآية المباركة ظاهرة في
- (1) مجمع البحرين 3 : 1425 .
- (2) زبدة البيان 1 : 286 .
- (3) التبيان في تفسير القرآن 9 : 562 .
(الصفحة 297)
ذلك ، ومع التنزّل عن ظهور الآية ودعوى سكوتها عن بيان المصرف فالروايات صريحة الدلالة على ذلك ، ولا خلاف في المسألة .
وأمّا الآية الثانية: فموضوعها ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، والمراد منه ما يؤخذ منهم بالقتال وبعد الغلبة عليهم ودخول قراهم بقرينة المقابلة مع الآية الاُولى ، ولم يذكر فيها أنّ ما يرجع إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيّ مقدار ممّا غنمه المسلمون ، إلاّ أنّ آية الغنيمة قد كشفت القناع عنه وبيّنت أنّ ما يغنمه المسلمون فخمسه يرجع إليه ، كما وبيّن أيضاً مصرفه في كلتا الآيتين ، ولا يقدح تخصيصه بالذكر مع أنّه أحد الستّة; لكونه المحور والأصيل في هذا التسهيم كما لايخفى . وأنّ صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام)صريحة في أنّ الآية الثانية ناظرة إلى الغنيمة ، كما أنّ الاُولى ناظرة إلى الأنفال .
قال(عليه السلام) فيها: الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء ، وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفيء ، فهذا لله ولرسوله ، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء ، وهو للإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) . وأمّا قوله:
{وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب} قال : ألا ترى هو هذا ؟ وأمّا قوله :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فهذا بمنزلة المغنم . . . الخ(1) .
ولا ينافيه التعبير بالمنزلة المشعر بالمغايرة; لجواز كون التغاير من أجل اختلاف المورد بعد الاشتراك في الحكم ، نظراً إلى أنّ الغالب في الغنائم الاستيلاء عليها في دار الحرب وميدان القتال لا من أهل القرى ، فاُشير إلى تنزيل إحدى الغنيمتين
- (1) التهذيب 4 : 134 ح376 ، الوسائل 9 : 527 ، أبواب الأنفال ب1 ح12 .
(الصفحة 298)
منزلة الاُخرى(1) .
وهذا الذي أفاده وإن كان يقرّبه ذكر الأصناف الستّة في الآية الثانية كذكرها في آية الخمس من دون تفاوت ، حتّى في ذكر اللاّم في الأصناف الثلاثة الاُولى دون الثانية كتلك الآية من دون فرق ، وكذا يقرّبه ذكر قوله :
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب} في الآية الاُولى دون الثانية ، إلاّ أنّ الذي يبعّده ذكر «ما أفاء الله على رسوله» في كلتا الطائفتين وإن كان مورد الاُولى بني النضير ومورد الثانية العموم لكلّ أهل القرى ، والصحيحة مذيّلة بقوله(عليه السلام) : «كان أبي يقول ذلك ، وليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول وسهم القربى ، ثمّ نحن شركاء الناس فيما بقي» مع أنّ صريح صدر الصحيحة والروايات المتكثّرة أنّ ما كان لله فهو للرسول ، وما كان للرسول فهو الباقي ، فسهم الإمام هو النصف ، كما أنّ النصف الآخر سهم سائر الناس .
فلابدّ من أن يقال بأنّ الرواية معرض عنها ، أو يقال بأنّ الإعراض عن بعض الأحكام التي تشتمل عليها الرواية لا يوجب الإعراض عن مجموع الرواية ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الظاهر باعتبار كون الآية الثانية مبنيّة لحكم الغنيمة اعتبار السيادة في الأصناف الثلاثة الاُخر أيضاً ، مع أنّ قوله تعالى :
{كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ}(2) ظاهر في اعتبار الفقر فقط ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه يظهر منه أنّ أهل القرى باعتبار قلّة أفرادهم وأراضيهم يمكن التسلّط
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 352 ـ 353 .
- (2) سورة الحشر 59 : 7 .