(الصفحة 297)
ذلك ، ومع التنزّل عن ظهور الآية ودعوى سكوتها عن بيان المصرف فالروايات صريحة الدلالة على ذلك ، ولا خلاف في المسألة .
وأمّا الآية الثانية: فموضوعها ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، والمراد منه ما يؤخذ منهم بالقتال وبعد الغلبة عليهم ودخول قراهم بقرينة المقابلة مع الآية الاُولى ، ولم يذكر فيها أنّ ما يرجع إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيّ مقدار ممّا غنمه المسلمون ، إلاّ أنّ آية الغنيمة قد كشفت القناع عنه وبيّنت أنّ ما يغنمه المسلمون فخمسه يرجع إليه ، كما وبيّن أيضاً مصرفه في كلتا الآيتين ، ولا يقدح تخصيصه بالذكر مع أنّه أحد الستّة; لكونه المحور والأصيل في هذا التسهيم كما لايخفى . وأنّ صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام)صريحة في أنّ الآية الثانية ناظرة إلى الغنيمة ، كما أنّ الاُولى ناظرة إلى الأنفال .
قال(عليه السلام) فيها: الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء ، وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفيء ، فهذا لله ولرسوله ، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء ، وهو للإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) . وأمّا قوله:
{وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب} قال : ألا ترى هو هذا ؟ وأمّا قوله :
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فهذا بمنزلة المغنم . . . الخ(1) .
ولا ينافيه التعبير بالمنزلة المشعر بالمغايرة; لجواز كون التغاير من أجل اختلاف المورد بعد الاشتراك في الحكم ، نظراً إلى أنّ الغالب في الغنائم الاستيلاء عليها في دار الحرب وميدان القتال لا من أهل القرى ، فاُشير إلى تنزيل إحدى الغنيمتين
- (1) التهذيب 4 : 134 ح376 ، الوسائل 9 : 527 ، أبواب الأنفال ب1 ح12 .
(الصفحة 298)
منزلة الاُخرى(1) .
وهذا الذي أفاده وإن كان يقرّبه ذكر الأصناف الستّة في الآية الثانية كذكرها في آية الخمس من دون تفاوت ، حتّى في ذكر اللاّم في الأصناف الثلاثة الاُولى دون الثانية كتلك الآية من دون فرق ، وكذا يقرّبه ذكر قوله :
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب} في الآية الاُولى دون الثانية ، إلاّ أنّ الذي يبعّده ذكر «ما أفاء الله على رسوله» في كلتا الطائفتين وإن كان مورد الاُولى بني النضير ومورد الثانية العموم لكلّ أهل القرى ، والصحيحة مذيّلة بقوله(عليه السلام) : «كان أبي يقول ذلك ، وليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول وسهم القربى ، ثمّ نحن شركاء الناس فيما بقي» مع أنّ صريح صدر الصحيحة والروايات المتكثّرة أنّ ما كان لله فهو للرسول ، وما كان للرسول فهو الباقي ، فسهم الإمام هو النصف ، كما أنّ النصف الآخر سهم سائر الناس .
فلابدّ من أن يقال بأنّ الرواية معرض عنها ، أو يقال بأنّ الإعراض عن بعض الأحكام التي تشتمل عليها الرواية لا يوجب الإعراض عن مجموع الرواية ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الظاهر باعتبار كون الآية الثانية مبنيّة لحكم الغنيمة اعتبار السيادة في الأصناف الثلاثة الاُخر أيضاً ، مع أنّ قوله تعالى :
{كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ}(2) ظاهر في اعتبار الفقر فقط ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه يظهر منه أنّ أهل القرى باعتبار قلّة أفرادهم وأراضيهم يمكن التسلّط
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 352 ـ 353 .
- (2) سورة الحشر 59 : 7 .
(الصفحة 299)
عليهم بغير الحرب وحدوث ميدان القتال ، مع أنّ «القرية» في الكتاب لا تكون في مقابل البلد ، كقوله :
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا}(1) وقد اشتهر التعبير عن مكّة المكرّمة باُمّ القرى .
ثمّ إنّ التعبير بقوله(عليه السلام): «فهذا بمنزلة المغنم» ربما يشعر باختصاص الغنيمة في آية الخمس بغنائم دار الحرب ، ضرورة أنّه لو كان المراد بالغنيمة مطلق الفائدة والاستفادة لا يكون فرق بين الموردين أصلاً ، كما لا يخفى . وهذا الأمر أيضاً من جملة الاُمور المضعفة للرّواية .
ويرد على ما أفاده من اقتضاء قرينة المقابلة ذلك: أنّ الاعتماد على هذه القرينة إنّما هو بالإضافة إلى القيد الذي له كمال الدخالة في الحكم المذكور في الجملة المقابلة غير تام ، خصوصاً مع عدم الظهور العرفي في ذلك ، حتّى ذكر جماعة من المفسّرين ممّن مضى أنّ مورد الآية الثانية هو مورد الآية الاُولى(2) كما مرّ .
والالتزام بكون الآية الثانية منسوخة كما ترى ، كما أنّ الالتزام بثبوت شيء ثالث وفيء خاصّ كذلك ، والظاهر أنّه لا محيص عن الجمع بمثل ما أفاده وإن كان بعيداً في نفسه كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .
ثمّ إنّه بعد ذلك يقع الكلام في اختصاص هذا النوع من الأنفال بالأراضي كما عن المشهور(3) ، أو يعمّ غيرها كالفرش والأواني ونحوهما كما هو صريح المتن ، وقد استدلّ على التعميم ببعض الروايات ، مثل:
- (1) سورة يوسف 12 : 82 .
- (2) الكشاف 4 : 502 ، الصافي في تفسير القرآن 2 : 682 ، كنز العرفان : 377 .
- (3) النهاية : 199 ، السرائر 1 : 497 ، شرائع الإسلام 1 : 183 ، تذكرة الفقهاء 5 : 439 .
(الصفحة 300)
إطلاق صحيحة حفص بن البختري ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء(1) .
وعموم صحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : السريّة يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال : إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة(2) أخماس ، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ(3) . فإنّ مقتضى عموم الموصول الشمول لغير الأرض ، خصوصاً مع أنّ الخمس لا يختصّ بها ، وقد وقع مقابلاً للأنفال في الرواية الثانية ، فدلالتها على العموم بالدلالة اللفظية ، كما أنّ دلالة الاُولى بالإطلاق كما لا يخفى .
ولكن ربما يقال بأنّ في مقابل العموم الشامل للإطلاق الروايات المتقدّمة في صدر بحث الأنفال الظاهرة في الاختصاص بالأرض; لورودها في مقام التحديد والبيان ، وظاهرها أنّ للأرض خصوصيّة في هذه الجهة ، والمفهوم وإن لم نقل بثبوته حتّى بالإضافة إلى مفهوم الشرط الذي هو في رأس المفاهيم كما قرّر في محلّه من علم الاُصول ، إلاّ أنّه في غير ما ورد من القضايا المفهومية في مقام التحديد والتفسير كالأخبار الواردة في تحديد الكرّ(4) ، وفيه تقتضي القضيّة الدلالة على
- (1) الكافي 1 : 539 ح3 ، الوسائل 9 : 523 ، أبواب الأنفال ب1 ح1 .
- (2) كذا في المصدر ، ولكن في الوسائل: ثلاثة .
- (3) الكافي 5 : 43 باب قسمة الغنيمة ح1 ، الوسائل 9 : 524 ، أبواب الأنفال ب1 ح3 .
- (4) وسائل الشيعة 1: 164 ـ 167 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ب10 و11 .
(الصفحة 301)
المفهوم بالطبيعة ، فاللازم تقييد الإطلاقات وتخصيص العمومات بمثل هذه الروايات والحكم بالاختصاص بالأرض ، كما عليه المشهور .
وأجاب عن هذا الإشكال بعض الأعلام (قدس سره) بما ملخّصه: أنّه لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور .
أمّا أوّلاً: فلأنّ تلك الروايات لا تكون في مقام بيان الأنفال بتمام أقسامها ، كيف؟ وهي غير منحصرة في الأراضي بالضرورة ، فإنّ منها قطائع الملوك وميراث من لا وارث له ونحوهما ، ولم يتعرّض فيها إليها ، فيعلم أنّها بصدد بيان مصداق الأنفال في الجملة لا تحديد مفهومه ليدلّ على الانحصار بطبع الحال .
وأمّا ثانياً: فلأنّ الظهور المزبور وإن كان قابلاً لأن يقيّد به الإطلاق في صحيحة حفص ، إلاّ أنّه غير قابل لأن يخصّص به العموم في صحيحة معاوية بن وهب; لأنّ دلالته بالعموم اللفظي وهو أقوى من الظهور المستند إلى المفهوم; لأنّه كالصريح في عدم الفرق بين الأرض وغيرها ، على أنّ في صدر هذه الرواية دلالة على الشمول لغير الأراضي ، وهو قوله(عليه السلام): «فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟» فإنّ هذا التعبير ظاهر في المنقول ، وعليه فلا مناص من الأخذ بعموم هذه الصحيحة ورفع اليد عن ظهور تلك الروايات في الحصر بصراحة هذه المستندة إلى الدلالة الوضعية(1) .
قلت : ويمكن الإيراد على الجوابين :
أمّا الإيراد على الجواب الأوّل: فلأنّ خلوّ تلك الروايات عن بيان بعض أقسام الأنفال لا دلالة فيه على عدم كونها في مقام البيان والتحديد ، كالأخبار الواردة في الكرّ ، فإنّ ما دلّ منها على التحديد بالوزن لا ينافي ما دلّ على التحديد بالمساحة ،
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 355 ـ 356 .