(الصفحة 373)
بل ومواردها ـ أنّ غرض الشارع بالنسبة إلى المال الذي وقعت الحيلولة بينه وبين مالكه بالضلال ، أنّه لا ينبغي أن يكون متعطّلا عن الانتفاع ، وأن يصير بالضلال كالذي لا ينتفع به ، بل يجوز الإنتفاع به في هذه الحال وإن لم يكن مالكه معروفاً .
غاية الأمر أنّه لم يسلب أولويّة المالك الأصلي بمجرّد وقوع الحيلولة ، بل قد رُوعي حقّها بالحكم بوجوب التعريف في الورق الموجود في الدار المعمورة أو ما هي بحكمها ، وهو الدار الخربة القريبة من المكان المعمور كما عرفته(1) ، وفي الجوهر الموجود في بطن الدابّة بالنسبة إلى البائع ; لاحتمال كونه هو المالك ، وبوجوب تعريف سنة في اللقطة التي كانت بقدر الدرهم فما زاد .
ويستفاد من مجموع ذلك أنّ الشارع لم يحكم بنفي ملكية المالك بمجرّد وقوع الحيلولة ، بل قد راعى حقّه كمال الرعاية ، ومع ذلك لم يرض بتعطّل المال عن الانتفاع ، فجمع بين الأمرين بوجوب التعريف والحكم بجواز التملّك أو الصدقة عن المالك ، كما في مورد اللقطة ، ومن ذلك يستفاد جواز التملّك في الجملة ، كما أنّه يستفاد أحقّية الواجد بالنسبة إلى غيره كالناظر .
وحينئذ يقع الكلام في اختصاص هذا الحكم بالمال الذي وجد في ظاهر الأرض ممّا وقع الحيلولة بينه وبين مالكه مع عدم شعوره بذلك ، أو أنّه يشمل الكنز الذي هو عبارة عن المال المذخور تحت الأرض قصداً ، التحقيق أنّه لو لم يكن هنا الروايات الواردة في الكنز ، وأنّه يجب الخمس فيه كما يجب في الاُمور الاُخر التي وقع الكنز في سياقها ، لكان الحكم المذكور الوارد في الروايات الواردة في غير الكنز سارياً فيه أيضاً .
إمّا لأجل دعوى عدم اختصاص موردها بغير الكنز ، كما لا يبعد هذه
(الصفحة 374)
الدعوى بالنسبة إلى صحيحة محمّد بن مسلم وموثّقة محمّد بن قيس المتقدّمتين ; لعدم ظهور الروايتين في ما إذا كان الورق الموجود في الدار موجوداً في ظاهرها ، بل مقتضى الإطلاق وترك الاستفصال الشمول للكنز أيضاً .
وإمّا لأجل أنّ موردها وإن كان مختصّاً بغير الكنز ، إلاّ أنّ المتفاهم بنظر العرف عدم الاختصاص بمفهوم الموافقة الذي هو عبارة عن إلغاء الخصوصية ، فلو لم يرد في باب الكنز بالخصوص رواية لكان حكمه حكم اللقطة من وجوب التعريف وجواز التملّك بعده ، إلاّ أنّه مع ورود الرواية في مورده خصوصاً مع ذكره في سياق المعدن والغوص والغنائم التي يجب فيها الخمس ، فهل اللازم تقييد أدلّة الكنز الدالّة على وجوب الخمس فيما إذا صار الواجد مالكاً له بالأدلّة الواردة في غيره الظاهرة في توقّف جواز التملّك على التعريف ، بحيث كان ثبوت الخمس بعد التعريف وجواز التملّك ، أو أنّه حيث كان المورد في الدليلين مختلفاً ، حيث إنّ مورد أدلّة الكنز هو الكنز بالمعنى الذي عرفت(1) ، ومورد أدلّة غيره هو المال الموجود في ظاهر الأرض ، وقد وقعت الحيلولة بينه وبين مالكه بدون قصد ولا إرادة ، فلا منافاة بين توقّف جواز التملّك في الثاني على التعريف، وعدم توقّفه عليه في الأوّل ، بل ثبوت الملكيّة بمجرّد الوجدان ، غاية الأمر لزوم إخراج الخمس لأربابه ؟ وجهان .
لا مجال لتوهّم التقييد في الكنز الذي وجد في بطن الأرض وكانت الآثار شاهدة على تعلّقه بالاُمم الماضية التي ليس منهم في زمان الوجدان عين ولا أثر ; إذ لا وجه للحكم بوجوب التعريف بالنسبة إلى مثل ذلك الكنز الذي لا يحتمل عند العرف وجود مالك فعلي بالنسبة إليه .
وأمّا في غيره من الكنوز التي يوجد ويحتمل ثبوت المالك لها وبقاؤه في حال
(الصفحة 375)
الوجدان ، فهل يحكم بثبوت الملكيّة بمجرّد الوجدان ولزوم إخراج الخمس ، أو أنّه لابدّ من التعريف وجواز التملّك بعده؟
لا يبعد ترجيح الاحتمال الأوّل ; لظهور أدلّة الكنز الجاعلة إيّاه في سياق سائر ما يجب فيه الخمس من الاُمور الثلاثة أو الأربعة في ثبوت الملكيّة للواجد بمجرّد الوجدان من دون توقّف على التعريف ، ولا مجال للتصرّف فيها بسبب ما ورد فيما يجب فيه التعريف(1) ، كما أنّه لا مجال للحكم بوجوب الخمس فيما يجب فيه التعريف ، نظراً إلى أدلّة الكنز(2) الموجبة للخمس بعد الوجدان .
ومن هنا يشكل الحكم بثبوت الخمس فيما وجد في جوف دابّة اشتراها من الغير مع عدم معرفة البائع إيّاه بعد التعريف ، وذلك لعدم دلالة صحيحة عبدالله بن جعفر المتقدّمة(3) الواردة في حكم هذا الفرع على ثبوت الخمس ، بل مقتضى ظاهرها أنّه مع عدم معرفة البائع يكون الشيء بأجمعه للبائع ، وأنّه رزقٌ رزقه الله إيّاه ، وكذلك الورق الموجود في الدار المعمورة بعد عدم معرفة الأهل أو الساكنين حولها له ، فإنّ مقتضى الصحيحة والموثّقة المتقدّمتين(4) جواز التمتّع به بأجمعه والتملّك له كذلك ، من دون تعرّض بوجوب الخمس كما لا يخفى .
وبالجملة : فلم أعثر على دليل يدلّ على ثبوت الخمس في مثل هذه الصورة ممّا يجب فيه التعريف أوّلا وإن كانت الشهرة بين الشيخ ومن تأخّر عنه متحقّقة على ذلك(5) .
- (1) الوسائل 25 : 441 ، كتاب اللقطة ب2 .
- (2) الوسائل 9 : 495 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب5 .
- (3) في ص361.
- (4) في ص370.
- (5) النهاية : 321 ، المراسم: 209 ، المهذّب 2 : 568 ـ 569 ، السرائر 2 : 106 ، إصباح الشيعة : 325 ، الوسيلة : 278 ـ 279 ، الجامع للشرائع : 356 ، شرائع الإسلام 1 : 180 ، إرشاد الأذهان 1 : 292 .
(الصفحة 376)
اللّهمّ إلاّ أن يقال: يستكشف من الشهرة وجود نصّ دالّ على ذلك ، مذكور في الجوامع الأوّلية التي هي الأصل بالنسبة إلى الجوامع الثانوية الموجودة بأيدينا ، غاية الأمر أنّه لم ينقل فيها ، إلاّ أنّ بلوغ الشهرة إلى هذا الحدّ الذي يستكشف منه ثبوت النصّ في تلك الجوامع محلّ إشكال ، فانقدح أنّه لا دليل على ثبوت الخمس فيها وإن كان الاحتياط باخراجه ممّا لا ينبغي تركه .
ثمّ إنّ المراد بالتعريف في المقام هل هو الثابت في تعريف اللقطة من وجوب الدفع إلى مدّعي الملكيّة مع إقامته البيّنة عليه ، وإلاّ فبدونها لا يجب الدفع . نعم، يجوز مع حصول الظنّ بكونه مالكاً من التوصيف وبيان الآثار والعلائم ، وبعد فرض وجدان المالك الحقيقي يكون ضامناً له أيضاً ، أو أنّه لا يلزم في المقام إقامة البيّنة ، بل يكفي في وجوب الدفع إلى البائع مجرّد توصيفه وبيانه الآثار والعلامات ، أو لا يحتاج إلى ذلك أيضاً ، بل يكفي مجرّد ادّعائه الملكيّة وإن لم يكن يعرفه بالخصوصيّات ولم يقم عليه البيّنة أيضاً ، كما حكي عن الشهيد (رحمه الله)(1)؟ وجوه .
الظاهر هو الوجه الثاني ; لظهور الرواية في توقّف وجوب الدفع إلى البائع ، وثبوت الملكيّة له على عرفانه ، ومن الواضح أنّه ليس المراد بالعرفان مجرّد ادّعاء الملكيّة وإن لم يكن يعرف شيئاً من خصوصيات الشيء وآثاره ، بل ظاهر العرفان ، العرفان بالخصوصيّات ، وعليه فلا يبقى مجال للاحتمال الثالث .
نعم، يمكن الاستناد بأنّ مقتضى ثبوت التسلّط والاستيلاء على الدابّة الاستيلاء على ما في جوفها أيضاً ، وهذه السلطة لم تزل بوقوع المعاوضة على نفس الدابّة ، بل هي بعد باقية ، ومقتضاها ثبوت الملكيّة لذي اليد وإن لم يقم البيّنة ولم يعرف الشيء بالخصوصيّات .
- (1) الدروس الشرعيّة 1: 260 .
(الصفحة 377)
هذا ، ولكن مقتضى هذا الدليل ثبوت ملكيّة البائع وإن لم يدّع الملكيّة أصلا، بل كان شاكّاً في كونه مالكاً له ، ومن الواضح أنّ المستدلّ لا يلتزم بذلك .
هذا، مضافاً إلى أنّ ثبوت اليد على ما في جوف الدابّة بحيث يترتّب عليها آثار الملكيّة كسائر الموارد التي يحكم بترتّب الملكيّة بمجرّد ثبوت اليد ممنوع ; لعدم تبعية ما في جوف الدابّة لنفس الدابّة في اليد عند العرف والعقلاء حتى يحكم بتبعيته لها في الملكيّة ، كما أنّ الحكم بشمول المقام لقاعدة المدّعي بلا معارض ـ المقرّرة في كتاب القضاء(1)ـ ممنوع ; لأنّ مورد تلك القاعدة ما إذا كان مال بين أشخاص لهم اليد عليه ، ولكن لا يدّعيه إلاّ واحد منهم ، كما يظهر من الرواية التي هي المدرك لها(2) ، فلا ارتباط لها بالمقام .
فالإنصاف أنّ ظاهر الرواية الواردة هنا أنّه لا يكفي مجرّد ادّعاء البائع الملكيّة ، كما أنّه لا يحتاج إلى إقامة البيّنة ، كما في باب اللقطة ، بل يكفي الإدّعاء بضميمة التوصيف وبيان الخصوصيات .
هذا ، ويمكن الاستناد لكفاية مجرّد الادّعاء بصحيحة محمّد بن مسلم(3)الظاهرة في الحكم بملكية الأهل فيما إذا وجد الورق في الدار المعمورة ، فإنّ أمر مفادها يدور بين أن يكون المراد جعل الحكم الظاهري ; وهي الملكيّة الظاهرية للأهل ، وبين أن يكون المراد بيان أحقّية الأهل ولزوم التعريف لهم ، كما تشهد به قرينة المقابلة مع الحكم بأحقّية الواجد فيما إذا وجد الورق في الدار غير المعمورة ،
- (1) راجع شرائع الإسلام 4 : 109 ، رياض المسائل 9 : 376 ـ 377 ، مستند الشيعة 17 : 358 ـ 359 ، جواهر الكلام 40 : 398 .
- (2) الكافي 7 : 422 ح5 ، التهذيب 6 : 292 ح810 . الوسائل 27 : 273 ، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب17 ح1 .
- (3) الكافي 5 : 138 ح5 ، التهذيب 6 : 390 ح1169 ، الوسائل 25 : 447 ، كتاب اللقطة ب5 ح1 .