(الصفحة 390)
على ما تشهد به القرائن ـ والنهاية والاقتصاد والمبسوط(1) ، الذي هو آخر ما صنّفه في الفقه وإن كان التبيان الموضوع في التفسير هو آخر ما برز من قلمه الشريف ، كما أشار إليه الحلّي في السرائر(2) .
ولا ينافي ذلك عدم تعرّض من تقدّم من الأعلام ، وكذا بعض آخر كالسيّد في الانتصار لثبوت هذا الخمس ; لأنّه يحتمل أن يكون الوجه لعدم تعرّضهم له عدم عثورهم على الرواية التي هي الدليل الفريد في الباب ; لعدم العلم بحال أكثرهم وأنّهم هل كان نشؤهم في المجامع العلمية أو في غيرها ، مضافاً إلى أنّ الجوامع الثانوية كالكافي للكليني لم تكن موجودة في زمان بعضهم ، كابن أبي عقيل .
وكيف كان، فلم يعلم أنّهم بعد الاطلاع على الرواية تركوا التعرّض ، نظراً إلى عدم كون المراد منها هو الخمس المصطلح ، مضافاً إلى أنّ مثل كتاب الانتصار موضوع لإيراد متفرّدات الإمامية ، ومع ذلك لم يكن جامعاً لجميعها ، كما أفاد سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه الوارف ، حيث ذكر أنّه في سالف الزمان قد جمع جملة من المتفرّدات غير المذكورة في كتاب الانتصار ، وكذلك يحتمل أن يكون المراد هو ضعف العشر الثابت بعنوان الزكاة في الأراضي العشريّة، نظراً إلى إسناد الشيخ ذلك إلى أصحابنا الإماميّة ، كما عرفت عبارته في كتاب الخلاف الذي صنّفه في أواسط اشتغاله بالتصنيف ، وإلى خلوّ الروايات ـ الحاصرة لما يجب فيه الخمس في الخمسة أو الأربعة أو الواحد وهي الغنائم ـ عن ذكر هذه الأرض ، فإنّها خارجة عنها ، ولا تكون مشمولة للغنائم أيضاً بناءً على كون المراد مطلق الفائدة والغنيمة ، كما أنّه لا بدّ من حمل الرواية الدالّة على انحصار الخمس فيها(3) على ذلك .
- (1) النهاية : 197 ، الاقتصاد : 427 ، المبسوط 1 : 237 .
- (2) السرائر 1 : 488 .
- (3) راجع الوسائل 9 : 485 و491 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب2 ح1 و15 .
(الصفحة 391)
وبالجملة : فلا محيص عن الالتزام بإجمال الرواية والقول بأنّ المستند في المقام حجّة إجمالية مردّدة بين كون المراد منها تعلّق الخمس بنفس الأرض أو بحاصلها وغلّتها ، والقاعدة في مثل ذلك وإن كانت تقتضي الاحتياط بالجمع بين الأمرين ، إلاّ أنّا نعلم بُعد جواز إلزام الحاكم للذمّي بكليهما .
ومن الواضح أنّ المخالفة القطعية غير جائزة ، فلا بدّ حينئذ من ترجيح أحد الطرفين بالظنّ لو كان ، فإنّه يصير حجّة في مثل ذلك ممّا انسدّ الطريق إلى الحكم الشرعي ولم يمكن أو لم يجز الاحتياط ، ولا يبعد أن يقال في المقام : بأنّ الظنّ الحاصل من فتوى الشيخ في أكثر كتبه والشهرة بين المتأخّرين(1) يرجّح جانب تعلّق الخمس بنفس الأرض ، كما لايخفى .
وأمّا من الجهة الثانية : فلا يبعد أن يقال بعدم الاختصاص بالشراء ، نظراً إلى إلغاء العرف للخصوصيّة عنه ، وعدم الفرق بينه وبين غيره من المعاوضات . نعم، لا دليل على التعدّي عن المعاوضات ودعوى الشمول لغيرها من الانتقالات ، كالهبة وغيرها، فضلا عن الانتقالات القهرية كالإرث مثلا .
وأمّا من الجهة الثالثة : فقد يقال بالاختصاص بأرض الزراعة ، والظاهر أنّه لا دليل عليه ، بل يشمل مثل أرض الدور والمساكن والدكاكين وغيرها ; لإطلاق الرواية ، لكن متعلّق الخمس هي نفس الأرض ، لا بضميمة ما فيها من البناء، ولا الأرض بوصف كونها مشغولا به ، كما لايخفى .
(الصفحة 392)
السادس: الحلال المختلط بالحرام في الجملة
لم يذكره جماعة من القدماء في عداد ما يجب فيه الخمس(1) كالعامّة ، حيث لم يعنونوا هذا العنوان لا في باب الزكاة ولا في باب الخمس ، وقد خالف في تعلّق الخمس به المقدّس الأردبيلي من المتأخّرين(2) وتلميذه صاحب المدارك(3) .
وكيف كان، فقد استدلّ في الجواهر لذلك بوجوه كثيرة لا يخلو أكثرها عن النظر والمنع(4) ، مثل دعوى الاندراج في الغنيمة الثابت فيها الخمس بمقتضى الآية الشريفة ، فإنّه يرد عليه عدم صدق الغنيمة على المقام بوجه ، ولو بناءً على عدم الاختصاص بغنائم دار الحرب والقول بشمولها لمطلق الفائدة ، فإنّه لا فائدة في المقام ، بل الفرض تخليص الحلال من الحرام المختلط معه ، بحيث جاز له التصرّف في ماله المختصّ به من غير أن يكون في البين غنيمة وفائدة أصلا ، كما لا يخفى .
ومثل الاستدلال بما في صحيح ابن مهزيار من قوله(عليه السلام) : ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله ، ومثل مال يؤخذ لا يعرف له صاحب و[من ضرب](5) ما صار إلى مواليّ من أموال الخرميّة الفسقة(6) ، فإنّه لا دلالة فيه على وجوب الخمس في المال
- (1) قال في مختلف الشيعة 3 : 189 مسألة 145 : لم يذكر ذلك ابن جنيد ولا ابن أبي عقيل ولا المفيد .
- (2) مجمع الفائدة والبرهان 4 : 320 ـ 321 .
- (3) مدارك الأحكام 5 : 387 ـ 388 .
- (4) جواهر الكلام 16 : 70 ـ 71 .
- (5) من التهذيب.
- (6) التهذيب 4 : 141 ح398 ، الاستبصار 2 : 60 ح198 ، الوسائل 9 : 501 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب8 ح5 .
(الصفحة 393)
المختلط بالحرام من جهة اختلاطه به وتخليص الحلال منه .
كما أنّ الاستدلال برواية عمّار ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال: لا ،إلاّ أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت(1) ، ممنوع ; لعدم وضوح كون إيجاب الخمس فيما صار في يده إنّما هو لأجل اشتماله على الحرام واختلاطه به ، بل يمكن ـ كما لعلّه الظاهر ـ أن يكون من باب الكفّارة للخروج في عمل السلطان .
وبالجملة : فالتمسّك بمثل هذه الوجوه مضافاً إلى عدم تماميّتها يوجب تبعيد المسافة والوهن فيما يمكن الاستدلال به .
وكيف كان، العمدة في المقام روايات ثلاثة:
إحداها: رواية عمّار بن مروان قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول فيما يخرج من المعادن والبحر ، والغنيمة ، والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه ، والكنوز ، الخمس(2) . ودلالتها على ثبوت الخمس فيه وأنّ المراد بالخمس فيه هو الخمس المعهود الثابت في غيره ممّا يجب فيه الخمس واضحة لا مرية فيها .
ثانيتها: رواية حسن بن زياد ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه ، فقال له: أخرج الخمس من ذلك المال ، فانّ الله تعالى قد رضي من المال بالخمس ، واجتنب ما كان صاحبه يعمل(3) .
وفي بعض نسخ الوسائل بدل «يعمل» «يُعلم» وعليه فيكون المراد بالموصول
- (1) التهذيب 6 : 330 ح915 ، الوسائل 9 : 506 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب10 ح2 .
- (2) الخصال : 290 ح51 ، الوسائل 9 : 494 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب3 ح6 .
- (3) التهذيب 4 : 124 ح358 وص138 ح390 ، الوسائل 9 : 505 ، أبواب ما يجب فيه الخمس ب10 ح1 .
(الصفحة 394)
هو المال ، ويصير مفاد الذيل وجوب الاجتناب عن المال الذي كان صاحبه معلوماً ، وليس فيه حينئذ دلالة على أنّ المراد بقول السائل : «أصبت مالا» إلخ هو إصابة المال الكذائي من الشخص الآخر إليه ، وهذا بخلاف ما لو كان الصادر «يعمل» بدل «يُعلم» ، فإنّ فيه حينئذ دلالة على أنّ المراد من إصابة المال الكذائي إليه من أصابته من الشخص الآخر إليه بالإرث أو غيره .
غاية الأمر أنّه أغمض في طريق تحصيله ، وعليه فيكون المراد بالموصول ـ الذي يجب الاجتناب عنه ـ هو الطريق غير المشروع الذي حصل بعض المال منه .
ويؤيّد هذا الاحتمال صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: أتى رجل أبي(عليه السلام) فقال: إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد أعرف أنّ فيه رباً واستيقن ذلك ، وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا يحلّ لك أكله ، فقال أبو جعفر(عليه السلام): إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفاً رباً ، وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً ، فإنّ المال مالك، واجتنب ما كان يصنع صاحبه، الحديث(1) .
وكيف كان، فلا بدّ من النظر في السؤال في رواية الحسن وتشخيص المراد من قوله: «لا أعرف حلاله من حرامه» ، وأنّه هل يختصّ هذا التعبير بما إذا لم تكن عين الحلال متميّزة عن عين الحرام ، بأن كان هنا عينان مثلا يعلم بكون إحداهما حلالا والاُخرى حراماً على سبيل الشبهة المحصورة ، من دون أن يكون النظر إلى جهالة مقدار الحرام ، أو يعمّ ما إذا كان مقدار الحرام الموجود على نحو الإشاعة في المجموع
- (1) الكافي 5 : 145 ح5 ، الفقيه 3 : 203 ح789 ، التهذيب 7 : 16 ح70 ، الوسائل 18 : 129 ، كتاب التجارة، أبواب الربا ب5 ح3 .